في صباي كان يستهويني الجلوس على محطة السكة الحديد، وبينما أقرأ احدى روايات الجيب استريح قليلا وأرقب القطارات والقادمين والمسافرين والمودعين، وأستمتع اكثر بمشهد المبنى الفيكتوري الأنيق العتيق، والمقاعد الخشبية التي تظللها أشجار الفيكس المشذبة النضرة الممتدة على طول الرصيف النظيف الموازي للمجرى الرائق لأطول وأوسع ممر مائي محفور فى مصر بعد قناه السويس وهو (ترعة الابراهيمية) تلك التي ترافق موازيه مسار سكة القطارات من أسيوط إلى القاهرة، وكان يشدني مظهر العاملين في المحطة المعتزين بذواتهم والمتأنقين في ملبسهم المميز حينذاك، وكانت تلك احد المتع القليلة المتاحة لى في مدينتا الهادئة الصغيرة، فى تلك الأيام علق بذهني مشهد استغرق تفسيره كثيرا، مشهد عمال السكة الحديد بزيهم المعروف آنذاك بينما يدفعون بأيديهم مايشبه مقعد يتحرك على المسار باربع عجلات حديدية،يجلس على المقعد رجل يرتدي غطاء رأس واق من الشمس، وكان العمال بينما يدفعون المقعد يرددون بعضا من أهازيج، وعلى وقعها (أو هكذا خيل إلي حينئذ) يحرك الرجل راسه يمينا ويسارا باستمرار، واحيانا يتوقف الركب فجأة باشارة من الرجل، الذي ينزل من على الكرسي، ويجلس القرفصاء، ليتفحص عن قرب شيئا، ثم يصدر تعليماته باجراء عمل ما،ومن ثم يخرج العمال بعض الالات من صندوق ملحق بخلفية الكرسي، ويبدأ العمل وينتهي، وتوضع العدد في اماكنها ويستأنف الجميع المسير بنفس الوتيرة يرددون اهازيج وعلى وقعها (أو هكذا خيل إلى حينئذ) يحرك الرجل رأسه يمينا ويسارا الى أن يغيب الجميع عن ناظري شمالا أو جنوبا.
بعد نصف قرن، وبعد أن غاب هذا المشهد الى الابد، وبعد أن إعتدنا مشهد القطارات المقلوبة والمحترقة، وبعد أن نأسف لطول المقدمة، أخبركم الان من كان هذا الرجل؟ وماذا كان يفعل؟ إنه مراقب سلامة السكة وصيانتها، الذي كانت مهمته ملاحظة أي خلل قد يطرأ على توازي وثبات فرعي المسار الحديدي في القطاع الطولي المخصص له، أما حركة رأسه يمينا ويسارا فكانت لالتقاط أي ظواهر غير مألوفة في مسامير تثبيت القضبان المتتالية تبادليا على الجانبين، وعرفت أيضا لماذا كانت القطارات (البدائية وقتها) تصل في المواعيد المقررة، وكانت صافراتها المميزة هي الوسيلة المتاحة لمعرفة الوقت بدقة في طول البلاد في ثالث أقدم خط حديدي فى الدنيا أنشأه (المستعمرون الغزاه ). كان ذلك هو أحد ملامح ثقافة الجودة أو ثقافة الحياه، تلك التي كانت سائدة في مرافق الدولة المصرية ( العصرية )حتى منتصف القرن الماضي، الثقافة التي كان ينتج بها (ياسين) الزجاج، وينتج بها (الشوربجي) الأقمشة القطنية، وينتج بها (عبود) السكر والسماد في طول البلاد، ولم تكن الحرائق تنشب يوميا في متاجر ومخازن داود عدس وشيكوريل وبنزايون، انها ثقافة الجودة، الثقافة التي أفرزت طلعت حرب في الاقتصاد، وطه حسين ونجيب محفوظ في الادب، وسعد زغلول ومكرم عبيد وجمال عبد الناصر زعماء، وناجي وشوقي وحافظ شعراء، وموسى وهيكل صحافيين، ومختار وأم كلثوم وعبد الوهاب في الفن، وغيرهم وغيرهم، كل ذلك كان قبل مئة عام، قبل أن يكون للجودة مسميات لاتينية، وأرقام ورموز ومصطلحات طويلة ومؤهلات وتراخيص لا تمنح إلا بشق الأنفس، وعلامات لا يمكن وضعها على منتج إلا بعد إجراءات معقدة ودولارات هذا عددها، إلا أن المؤكد أن الرجل الجالس على هذا الكرسي (المتحرك)، كان ينفذ برنامجا أكثر دقة، برنامجا مطبوعا في جيناته، وهو برنامج الضمير الحي الذي ورثة من أجداده، أجداده الذين صنعوا معجزات هندسية في الماضي البعيد والقريب، لا يزال العالم كله يحتار في تفسيرها إلى اليوم، لكن ماذا حدث في كل مرافق الدولة المصرية، لماذا أصبح الإهمال والتواكل والغش والتدليس والرشوة والنصب والاحتيال بالإضافة بالطبع لمتنتجنا الرئيس وهو (الفهلوة)، لماذا أصبحت تلك القائمة الطويلة هي البديل لبرامج (المراجعة والتحكم والتوكيد) وهى البرامج المعتمدة في كل المجتمعات المتحضرة لتحسين جودة الحياة الإنسانية، ولماذا أصبحت هذه القائمة الطويلة من الموبقات هي برامج الجودة المحلية التي ابتكرناها، ونحصد نتائجها الباهرة كل ساعة فتنقلب القطارات وتنتشر الحرائق وتتصادم السيارات وجها لوجه وتغرق السفن وتسقط الطائرات وتنهار البنايات وأصبح غذائنا مسمما وتعليمنا مهلهلا وقضائنا ظالما ومنتجنا كله عوار، كما وأصبح هوائنا ملوث ومياهنا آسنة وتم مسخ البشر وتحويلهم لأشباه آدميين مسلوبي الفكر والارادة. إن ما يتعرض له الإنسان من قهر في هذه البقعة المظلمة من الدنيا، في هذه الحقبة المظلمة من التاريخ، قهر السلطة السياسية، وقهر السلطة الروحية، وقهر القوانين المتكلسة، وقهر الاعراف البالية، كل هذا القهر أفقده الأمل في الحياة التي يعيشها، إنسان لم يعد له حياه يسعى للحفاظ عليها فهو يمشي مرتديا لحده وأمامه القبر الفارغ الذي يفغر فاه في وجهه ويهم بابتلاعه،هكذا لقنوه في الميديا ودور العبادة والمدرسة، فلماذا يصون السكة اذا كانت كل السكك تؤدي الى باب القبر، ولماذا يدقق في زرعته أو صنعته أو مهنته، فالامر لا يستحق كل هذا العناء، فنحن جميعا في انتظاره، في انتظار الموت،نعم هذه هي الثقافة الحاضرة المقررة على هذا الانسان في هذه المنطقة من العالم، ثقافة إنتظار الموت ومتلازمتها الأزلية التوأم ثقافة الرزق الساعي إلى الأبواب، ثقافة لا يستقيم معها أي نشاط انساني يكون هدفه المساهمة في إعمار هذا الكون وتقديس نفحة الحياة التي وهبنا الخالق، فبينما تنهمر الابحاث والمخترعات على رؤوسنا كل ساعة، من أناس يبحثون في (كيف يعيش) الانسان، أي تيسير وتجويد سبل العيش و(البقاء) له أى ثقافة الحياه، لازال آخرون غارقين في مبحث واحد هو (لماذا يعيش) الانسان، مبتدعين ومنظرين وميسرين سبل الموت و(الفناء) له أى ثقافة العدم. وفي آخر الحروب (وأنا شاهد عيان) طبق المصريون برنامج جودة من ابتكارهم، ملخصه: هدف واضح وفرد محترم ومعدة مصانة،هدف تم دراسته وتحديده بكل دقة، دونما تهور أو تردد، وفرد محترم وفرت له القيادة أجواء المساواة بالاقدمية المطلقة دون النظر لدينه أو عرقه، ومعدة مصانة طبقا لأصول تصنيعها، ويغلف كل ذلك عقيدة تحض على العمل، بأقصى ما وهب الله للانسان من يقظة الضمير وقوة العقل ورجاحة الفكر، لذا كان النصر وليدا لثقافة الجودة أو ثقافة الحياه، الجودة التي نفتقد حدها الادنى في كل مناحي الحياة،وهى الفريضة الواجبة التي يحاربها أعداء الحياة، خشية أن تستشري، ومن ثم يستخدم الناس عقولهم في التساؤلات الخطرة، التساؤلات التي ربما تطيح إجاباتها برؤوس أصنام كثيرة، هذا هو الصراع المحتدم بين الفريضة الغائبة ثقافة الحياه، المتمثلة في السعي الدؤوب لتحسين أحوال انسان (حي) وبين الفريضة الحاضرة ثقافة الفناء المتمثلة في تمجيد أحوال انسان (ميت ).
وفي زيارتي الأخيرة لمسقط رأسي، إنتابتني موجة حنين جارف لجلسة صباي الأثيرة على محطة القطار القديمة، ولم أدهش كثيرا عندما رأيت شجرة (سنط) كثيفة متغولة، تنفث الاشواك على الرصيف المتهالك، وبعض نخلات عجفاء عقيمة برزت في الفوضى المخيمة على المكان، وأسراب الغربان متراصة ساكنة على أعمدة الاشارات العاطلة، وكأنها في انتظار زلزال، والكلاب الضالة تضطجع آمنة أسفل الجدران الرطبة للمبنى الفيكتوري المتهدم،وزواحف وهوام من فصائل كثيرة عششت في المكان، ونبات الحلفا يبرز من بين فواصل بلاط الأرصفة، وحروف باهتة على لوحة عرجاء تستند على بقايا سور، والمقاعد الخشبية المتآكلة تبدو كهياكل عظمية لجيف متحللة، والمجرى الرائق أصبح مستنقعا مغطى بطبقة آسنة سميكة، يبرز منها أطراف دواب نافقة وعلى جانبيه أكوام أزبال كثيفة لمدينة بكاملها رائحتها تزكم الأنوف. عدت أجر أذيال الخيبة يعتصر الالم قلبي الحزين.
التعليقات