أثنيت من قبل، في أكثر من مناسبة، على عقلانية quot;المبادرة اليمنيةquot;، وكتبت فيها أكثر من مرّة، لأنها جنّبت على عكس توقعات الكثيرين، اليمن واليمنيين، معارضين وموالين وما بينهم من قبائل صامتة، خطر الإنزلاق إلى حرب أهلية طويلة الأمد، كان سيخرج الكلّ منها خاسراً. فلولاها لكان اليمن الآن يمنان أو أكثر، ولكانت التراجيديا اليمنية، أكبر وأفدح من التراجيديا السورية. المعارضة اليمنية اختلفت على علي عبدالله صالح، لكنها اتفقت على اليمن. هي اختلفت على quot;ناطور اليمنquot; لكنها لم تختلف على quot;أكل العنبquot;. وهذا هو quot;عين العقلquot; في الفعل السياسي.
أما المعارضات السورية، لا سيما تلك الممثلة بquot;معارضة الخارجquot;(لا أتحدث هنا، عن quot;معارضة الداخلquot; الممثلة في quot;هيئة التنسيقquot;، لأنها محسوبة بشكل أو بآخر على النظام)، فهي على العكس من أختها اليمنية، اتخذت منذ البداية، من سياسة quot;قتل الناطورquot; بوصلةً وموجهاً لمجمل سياساتها. فquot;المجلس االوطني السوريquot;، بإعتباره أكبر تحالف سوري معارض، وأكثره تأثيراً، على سبيل المثال لا الحصر، أقفل باب الحوار بينه وبين النظام، منذ الأول من تأسيسه، وذلك عملاً بمبدئه الأساس quot;لا حوار مع نظامٍ يقتل شعبهquot;.
لا شكّ أن نظام الأسد، هو نظامٌ أكثر من قاتل، ومجرم بكلّ المقاييس، بل وأكثر من فاشي، ولكنّ أليس آخر كلّ حربٍ هو هدنة وسلام؛ وآخر كلّ خرابٍ هو بناء؛ وآخر كلّ مشكلةٍ هو حلّ؛ وآخر كلّ أزمة أو ضيقٍ لا بدّ من البحث عن فرج؟
غلق باب الحوار مع النظام، بهذه الطريقة الخارجة على كلّ السياسة، يعني ترك باب الأزمة مفتوحاً على اللاحل، ودفعها نحو المزيد من العناد والعناد المضاد، لا سيما وأنّ كلّ المبادرات العربية والدولية، التي طرحت حتى الآن على الطاولة(بما فيها خطة quot;مجموعة الإتصالquot; الجديدة التي لا تزال قيد الدرس بين quot;الدول المؤثرةquot; في الأزمة السورية)، اتخذت من الحوار بين كلّ الأطراف مبدأً أساسياً للنجاح والخروج من الأزمة بأقل التكاليف. فquot;إرجاءquot; الحوار أو quot;إلغاءهquot; يعني السير عكس العالم، الذي لا يزال رغم مسلسل القتل اليومي، بالمفرق وبالجملة، المتواصل منذ أكثر من 15 شهراً، يعتبر quot;الحل السياسيquot;، الذي لا بدّ أن يمرّ عبر الحوار بين جميع الأطراف، أسلم الحلول وأقلها تكلفةً على الشعب السوري. هذه هي قناعة العالم، حتى اللحظة في الأقل.
يليق بنظامٍ قاتل كنظام الأسد، أن يرفض الحوار أو حتى quot;يدوسquot; عليه، كما يفعل منذ أكثر من أربعين سنة، ولكن لا يليق ذلك بمعارضة ترى نفسها بديلاً لهذا النظام، وتدعي بأنها ستدشن لquot;عهد جديدquot; في quot;سوريا جديدةquot;، ليس عطفاً على النظام بالطبع، وإنما رحمةً بالشعب السوري.
في ظلّ انعدام البدائل الأخرى، وتلكؤ العالم في إتخاذ موقف موحّد وحاسم يدفع تراجيديا الدم السوري إلى خط النهاية، كان من الأولى بأهل quot;المجلس الوطني السوريquot; أن يفكّر بإنقاذ سوريا قبل أن يفكر بquot;إغراقquot; سفينة النظام. كان عليه ألاّ ينجرّ إلى فخ النظام الطائفي، وأن يجنّب السوريين من حربٍ أهلية، طائفية، اشتغل النظام منذ الأول من الحراك الثوري على صناعتها. quot;المجلس الوطني السوريquot;، بدلاً من أن ينأى بنفسه عن هذه الحرب الطائفية الفذرة، ويضع تحتها أكثر من خط أحمر، أصبح الآن طرفاً أساسياً فيها. فعلى الرغم من إعلانه أكثر من مرّة على لسان رئيسه السابق د. برهان غليون، بأنه ينسّق مع قادة quot;الجيش السوري الحرّquot; ليكون سلاحه سلاحاً quot;وطنياًquot; لquot;حمايةquot; السوريين وquot;الدفاعquot; عنهم في وجه آلة حرب النظام، إلا أنّ الحقيقة السورية على الأرض، تقول بغير ذلك. ولعلّ التقرير الأخير لquot;وكالة الأنباء البابويةquot;، الذي أشار إلى quot;أن أعداداً كبيرة من المسيحيين غادروا بلدة القصير في حمص، التي تشهد اشتباكات عنيفة منذ أشهر، بعد أن أنذرهم قائد الثوار العسكري في البلدة، عبر رسالة معلنة من المآذنquot;، يكشف عن بعض حقيقة هذا السلاح، الذي تحوّل بكل أسف، على ما يبدو، من سلاح كان من المفترض به أن يكون لكل السوريين إلى quot;سلاح طائفيquot;، لضرب طوائف أخرى. هذا ناهيك عن أنّ كل تقارير الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، الأخيرة، تتهم إلى جانب كتائب النظام، كتائب quot;الجيش السوري الحرquot; أيضاً، بإرتكاب إنتهاكات ضد حقوق الإنسان، وإن بدرجة أقل.
المتابع لديبلوماسية quot;المجلس الوطني السوريquot;، لا بدّ وأنه قرأ التخبط الواضح لقادته، كلما جرى الحديث عن quot;إمكانيةquot; فتح قنوات حوار مع النظام. لا يوجد للمجلس شيء إسمه سياسة في هذا المنحى، وإنما هناك quot;ثاراتquot; وquot;انتقاماتquot; وquot;كيدياتquot;. كلّ ما هنالك، هو أنّ quot;فوقquot; المجلس يريد قتل النظام، الذي قتل ولا يزال يقتل في الشعب السوري. لا شكّ أنّ النظام السوري يستحق جراء جرائمه الوحشية أكثر من إعدام، لكنّ ماذا سيربح السوريون، لو قتلوا النظام وأعدموا كلّ رؤوسه، وخسروا في المقابل سوريا؟ هل سيعيد إعدام الأسد وكلّ من حوله من رموز النظام، حياة قرابة 15 ألفاً من السوريين؟ هل سينسي إعداماً كهذا، فيما لو وقع، آلام ومعاناة وعذابات مئات الآلاف من السوريين، بين مشردين ومهجّرين ومعتقلين وجرحى ومعوّقين؟
لا أعتقد أنّ في شعار quot;لا حوار مع القتلةquot; أي سياسة. في السياسة، لا توجد quot;لاquot; دائمة، كما لا توجد quot;نعمquot; دائمة. في السياسة، quot;أكل العنبquot; هو أهم من quot;قتل الناطورquot;. والأنكى، أنّ على درب هذه السياسة كمقدمة خاطئة، انتهى المجلس إلى الكثير من النتائج الخاطئة. هو لم يغلق باب الحوار مع النظام فحسب، وإنما أغلقه مع المعارضات السورية الأخرى، التي لا تتخذ من quot;إسطانبولquot; مرجعيةً وquot;محجّاً سياسياًquot; لها.
ولعلّ أقرب تصريح معبّر عن هذه السياسة quot;الثأريةquot;، quot;الكيديةquot;(سياسة quot;قتل الناطورquot;)، التي يتبناها صقور quot;المجلس الوطني السوريquot;، هو تصريح سمير نشار العضو في مكتبه التنفيذي، والذي أدلى به أول أمس على قناة العربية. في ردّه على سؤالٍ عما يجب القيام به لتجنيب السوريين من مجازر أخرى قد يرتكبها النظام على غرار مجزرتي quot;الحولة والقبيرquot;، قال نشار ما معناه أن quot;النظام يقوم بالمجازر لتخويف الشعب السوري وإخماد ثورته، لكنّ ذلك لن يحصل. الشعب ماضٍ في ثورته ضد نظام الأسد حتى لو كلفته مليون ونصف شهيدquot;!!
القضية لا تكمن، إذن، في توفير كلفة الثورة على السوريين، فلا مشكلة لدى أهل quot;المجلس الوطني السوريquot;، على ما يبدو، في أن يضرب الرقم الحالي للقتلى السوريين الذي يقدّر بحوالي 15 ألف ب 100، ليسقط quot;مليون ونصف شهيدquot;، طالما أن النتيجة ستؤدي إلى إسقاط الأسد، quot;ناطور سورياquot;!
دولة بكاملها تضطر أحياناً إلى التفاوض مع خاطف أو قاتل لأجل إنقاذ حياة مواطن لها. أما أهل المجلس، فمستعدون لقتل quot;الناطور السوريquot;، حتى لو راح ضحية عنادهم هذا، مليون ونصف بني آدم!
أنها مفارقة من مفارقات المعارضة السورية: إسقاط النظام حتى لو سقطت معه كلّ سوريا!
أعلم أن الأسد، هو سيد القتل في سوريا، وهو المشرف على كل تفاصيل الدم السوري البريْ، المسفوك في الشوارع، على امتداد المكان من درعا إلى قامشلو.
وأعلم أن الأسد بطباعه الديكتاتورية الموروثة، هو رجل حرب، قبل أن يكون رجل سلام.
وأعلم أن الأسد، كعادة كلّ الديكتاتوريين، على استعداد أن يحكم سوريا quot;أرضاً بدون شعبquot;.
وأعلم، كما كتبت مراراً، أن الأسد هو المشكلة الأكبر؛ ليس لسوريا وشعبها فقط، وإنما للجيران والعالم أيضاً.
لكنّ المفارقة ههنا، هي، أن تقلّد المعارضة في بعض ردات فعلها النظام، وأن تقوم وتقعد لكأنها نسخة طبق الأصل منه.
كيف لمعارضة تطرح نفسها بديلاً عن نظامٍ وحشيٍّ، فاشيٍّ، ساقطٍ، قاتل، أن تشرّع quot;القتل المضادquot; أو تستسهله، لأن النظام يقتل؛ وأن تمارس quot;التطييف المضادquot;، لأن النظام طائفي؛ وأن تؤشكل سوريا لأن النظام مشكلة؛ وأن تقتل كل حوارٍ مع الأفرقاء ومع الأعداء، لأن النظام قاتل؛ وأن quot;تخوّفquot; الآخر، لأن النظام يزرع الخوف في نفوس السوريين منذ أكثر من أربعة عقودٍ؟
أكره النظام السوري، لكني لا أحب المعارضة السورية أيضاً!
أخاف النظام السوري، لكني لا أخفي، بأني أخاف المعارضة السورية أيضاً!
التعليقات