منذ أول ايام مجلس الحكم الذي قام على أسوأ نماذج المحاصصة الطائفية والعنصرية تنبأ كثيرون من الكتاب والسياسيين بفشل النظام الجديد، وتكهنوا بحجم الضرر والخراب والتمزق والفساد الذي سوف يجلبه للشعب العراقي، باعتبار أنه لم يقم على أساس الهوية الوطنية العراقية الواحدة، ولا وفق المباديء والقيم العصرية الديمقراطية التي تحقق تطلعات الشعوب في القرن الواحد والعشرين.

ولأن المقدمات توحي بالنتائج فإن أي نظام يعود بالمجتمع إلى الوراء عشرات السنين، ويستنهض الفكر الظلامي المتخلف، والعصبيات القبلية، والنزعات الطائفية والعنصرية المتطرفة، ويعادي التحضر والتقدم والتطور، لا بد أن يصل، عاجلا أم آجلا، إلى واحدة من حالين، إما أن يعتاد زعماءُ النظام الأقوياء على واقع الاحتراب المصلحي فيما بينهم، وبين أحزابهم وتجمعاتهم ومليشياتهم، فتصبح الفوضى والفساد وانعدام الثقة طبيعة ثابتة ودائمة، ثم يتعايش معها المجتمع العراقي، ويعتاد عليها المجتمعان الإقليمي والدولي، أو أن تتمخض المعاناة الشعبية الضاغطة عن إرادة وطنية واعية قادرة على إقامة جبهة ديمقراطية فاعلة، من الداخل، ويساندها الخارج، كما حدث ويحدث في بلدان الربيع العربي كلها، فتهمش ثم تطرد مافيات السياسيين المحترفين الحاليين الذين اختطفوا الوطن في غفلة، وفي ظروف الفوضى والفراغ التي خلقها الغازي الأمركي الجاهل بطبيعة المجتمع العراقي وتعقيدات محيطه الإقليمي المعقد.

ومنذ أيام النظام الأولى وقادة النظام، كلهم دون استثناء، يحاربون كل من يحاول تشخيص هذا الواقع المر، سواء بالكلمة أو بالتظاهر السلمي أو بالمعارضة الحزبية المنظمة، ويتهمونه بالعمالة لهذه المخابرات أو تلك، أو يرمونه بإحدى التهم الجاهزة، ومنها وفي مقدمتها التبعية للبعث وصدام، أو بالحقد الطائفي أو القومي الهدام.

لا تتسع صدورهم لنقد، ولا لوجهة نظر مخالفة، ولا لرأي آخر لا يمجد خرابهم، ولا يداري على فسادهم، ويسمي الديكتاتورية ديمقراطية، والغش والقتل والسرقة والتزوير والتهريب شطارة وشجاعة وعدالة ووطنية خالصة.

إلا أن شهادة من داخل النظام نفسه تبقى هي الأهم والأخطر من كلام جميع الكتاب والمحللين والسياسيين الواقفين خارج النظام. ثم حدث مؤخرا أن شهد شاهد من عظام رقبة النظام الجديد هو الدكتور محمود عثمان.

صحيح أنه ليس واحدا من قادة صناعة القرار القلائل الفاعلين، لكنه صانع قرار أيضا، ولو من بعيد، ومن المقاعد الخلفية في القيادة.
وهو لمن لا يعرفه جيدا سياسي عراقي كردي صادق وجريء وشجاع تكون صراحته الصاعقة، أحيانا كثيرة، جارحة لزملائه وحلفائه وخصومه، على السواء.
ومهما قيل عنه، وما سوف يقال، فليس أمام المراقب السياسي المحايد إلا أن يحترم صدقه وصراحته، ويبارك له شجاعته النادرة، حتى لو اختلف معه في بعض آرائه الساخة. وفي المحصلة النهائية فإن محمود عثمان أكثرُ وطنية عراقية من كثيرين من باعة الكلام عن الوطنية هذه الأيام، رغم أنه لا يقل (عصببية) قومية كردية عن قادة العملية السياسية العرب الآخرين المتسترين بالديمقراطية التي لا تتسق أبدا مع نزعاتهم وتصرفاتهم العنصرية المتطرفة، سنة وشيعة، دون تمييز.

في آخر أحاديثه المجلجلة لصحيفة (الشرق الأوسط) أعلن الدكتور محمود عثمان، بكلمات واضحة وصارخة لا تزويق فيها ولا نفاق، أن (العراق ليس دولة).
ولكي يكون أكثر إيضاحا لرأيه الجريء، وأكثر إقناعا فقد فصله تفصيلا وافيا فقال، إن quot;عملية تداول سلس للسلطة الآن في العراق، لن تتم، لأن العملية دخلت في إطار العداواتquot;. quot; قادة الكتل هم الذين يديرون العراق. البرلمان والوزارات ورئاسة الجمهورية تدار من قبل قادة الكتل السياسية، وهذه الكتل غير متفقة مع بعضها quot;.

quot; كلهم انتقائيون بالالتزام بالدستور. يقولون نلتزم بالدستور وهذا غير صحيح، كل واحد يلتزم بالفقرة الدستورية التي تعجبه أو تفيده، أما التي لا تفيده فلا يلتزم بهاquot;.
ويزيد في تفسير هذه النقطة فيقول: quot;البرلمان هو من صوت لرئيس الحكومة، ومن حقه أن يغيره بأكثرية الأصوات، خصوصا أن البديل سيكون من نفس الكتلة البرلمانية التي منها المالكي. هذه هي الديمقراطية وهذا هو الدستور. لكن عدم الالتزام بالدستور أدى إلى هذه النتائج، ووصل الأمر إلى أن يصرح المالكي قائلا: (لو أنني ديكتاتور لكنت قتلت من وقع على سحب الثقة)quot;. quot; بل وصف من وقعوا على سحب الثقة بـ(المتآمرين)quot;.

quot; اليوم في العراق يوجد نحو مليون مسلح يقودهم المالكي، ومن يتحكم في القوات المسلحة يكون هو الأقوى. فالعراق لا يزال يُحكم بقوة السلاح. صحيح أن هناك برلمانا ورئاسة جمهورية ورئاسة وزراء لكن الذي يتحكم بالقوات المسلحة هو الذي يحكمquot;.

quot; إن تفرد المالكي يأتي من كونه القائد العام للقوات المسلحة. وما يسمى بالقيادة العامة للقوات المسلحة بمثابة مكتبه وتحت إمرته وتحت يديه. في بقية الدول هناك قيادة عامة للقوات المسلحة أو مجلس للدفاع أو للأمن الوطني، لكن في العراق يوجد مكتب تابع للمالكي، والذين فيه ينفذون أوامرهquot;.

ثم يضيف الدكتور محمود عثمان إلى ملامح الخلل في النظام العراقي الحالي مظهرا آخر أكثر إيلاما وغرابة، فيفضح انحياز رئيس الجمهورية لأحد أطراف النزاع، حيث يقول،
quot; الرئيس طالباني منذ البداية كان يؤيد المالكي، ومع أن هذا رأيه، إلا أنه منحاز لرئيس الحكومة. وفي موضوع سحب الثقة هو غير محايد ومنحاز للمالكي، وموقفه أثر على الموقف العام وجاء في صالح المالكيquot;.

إن المعتاد في كل دول العالم التي تحترم نفسها أن يبذل رئيس الجمهورية كل جهده، بصدق وأمانة، لكي يكون رئيسا لكل مواطنيه، وأن يقف على مسافة واحدة من الجميع، وألا ينحاز إلا للعدالة، وإلا لمستقبل الأجيال القادمة. ولكن رئيس جمهوريتنا، مع الأسف الشديد، خالف مواصفات الرئيس الوطني المتسامي عن متاهات السياسة، والبعيد عن ألاعيبها، والرافض لعقلية الصفقات والمبادلات والتفاهمات في الغرف السود المغلقة. إن رئيس جمهويتنا ما زال رئيسا لحزبه، بل إنه يتصرف، في أحايين كثيرة، بصفة رئيس حزب، وكواحد من المتحاصصين المتصارعين على المكاسب، وينسى أنه رئيس دولة العراق. بل إنه ما زال موغلا في صراع نفوذ، كان علنيا ودمويا ثم صار غير معلن ومن تحت الطاولة، بين (حزب اتحاده الوطني) وبين غريمه الحزب الديمقراطي الكردستاني. أي أنه لم يستطع أن يرقى حتى إلى طموح شعبه الكردي في الحياد وصفاء النية والتجرد من المصالح الحزبية الضيقة.

وهو، قبل كل شيء، وإضافة إلى كل شيء، كان أول من سطا على قصور لصوص العهد السابق، وهي ملك عام، وما زال يقيم في أكبرها وأضخمها، ويحتل حراسه ومعاونوه عشرات المنازل الفاخرة الأخرى ويغلقون أجما مناطق العاصمة ويمنعون المواطنين من المرور فيها، تماما كما كان يفعل برزان وعبد حمود وعدي وقصي وعلي كيمياوي. كما كان رئيس جمهوريتنا أول من أسس فلسفة (شيلني واشيلك)، وأول من دشن المصالحية السياسية التي يسميها (براغماتية)، والتي تبيح التحالف مع القوي ضد الضعيف، ومع الغني ضد الفقير، ومع الحرامي ضد العفيف، ومع القاتل ضد القتيل. وهو، من زمن بعيد، ملتصق بإيران، وملتجيء إليها في الملمات ويطلب عونها عندما تلزم الحاجة، ويعطيها، بالمقابل، مصالح حزبه وكرامة وطنه ورزق مواطنيه الكورد، قبل غيرهم من العراقيين.

بالمناسبة، تطوع الأستاذ عادل مراد (القيادي في حزب الطالباني) فكشف لنا، في حديث لصحيفة (الشرق الأوسط) عن السر الذي دفع بالرئيس إلى دعم نوري المالكي ضد خصومه، فقال، إن quot; التطورات السياسية التي يشهدها العراق خلقت حالة من الفوضى ستجر تداعياتها على إقليم كردستان، شئنا أم أبينا، بدليل أن الصراع السياسي الحالي بين الكتل العراقية قد انسحب بآثاره على التحالف الاستراتيجي بيننا وبين الحزب الديمقراطي الكردستاني الحليفquot;.

ويفسر ذلك فيقول، quot; خصوصا وأن القوى والكتل العراقية التي تتجمع حول هذا الحزب الحليف لا تريد الخير لشعبنا الكردي، بدليل العديد من المواقف السلبية التي وقفتها تلك القوى من حقوق الشعب الكردي في مقدمتها موقف القائمة العراقية من انتخاب الرئيس طالباني وخروجهم من القاعة أثناء عملية التصويت بالبرلمان، وترشيحهم طارق الهاشمي ليكون رئيسا للعراقquot;.

quot; هذه المواقف السلبية تجعل من صلب واجباتنا وتعهداتنا أمام شعبنا أن نعترض على محاولات التفريط بالتحالف التاريخي بيننا وبين الإخوة الشيعة الذين شاركونا النضال ضد الديكتاتورية، واختلطت دماؤهم بدمائنا في جبال كردستان، وفي سجون النظام الديكتاتوري السابق. والواقع الراهن يستدعي منا الوقوف بوجه كل المحاولات الرامية إلى استبدال المالكي، وهو أقرب حلفائنا، بأشباه الحلفاء الذين يتصيدون في الماء العكر، ويستغلون الخلافات السياسية لمصالحهم الحزبية والفئوية وحتى الشخصيةquot;.

ومعنى كلام السيد عادل مراد واضح ولا يحتاج لتفسير. فهو يريد أن يقول إن السيد الرئيس خذل خصوم المالكي وزعم أن تواقيعهم لم تصل العدد المطلوب، وذلك خوفا من أن يصب ذلك في مصلحة الحزب الغريم وزعيمه، وفي صالح الذين عارضوا تنصيبه رئيسا، والذين لن يتورعوا عن إسقاطه، هو أيضا،، لو تمكنوا. يعني أن المسألة شخصية خالصة لا ناقة للوطن فيها ولا جمل، ولا حتى حمار.

لكن وقبل أن أختم هذه المقالة أقول لحضرة الأستاذ عادل مراد إن كلامه مردود عليه. فالحقيقة المعروفة والسائرة في أوساط الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وأصدقائه وخصومه، معا، والتي لم يتردد أي مسؤول كبير في الاتحاد عن إعلانها لنا في مجالسه الخاصة، هي أن ندما كبيرا يعتري قادة الاتحاد على تحالفهم مع أحزاب الإسلام السياسي الرجعية المتخلفة، وخاصة حزب الدعوة، ويعتبرون ذلك التحالف أكبر أخطائهم الفاضحة. ويرون أن الافضل لحزبهم ولشعبهم أن يتحالفوا من البداية مع القوى العربية الديمقراطية حتى وهي ضعيفة ومشتتة. ومؤكد أن القيادي الكبير في (الاتحاد الوطني)، ولنطلق عليه اسم (كاكا فلان)، حين سيقرأ كلام رفيقه عادل مراد سيشعر، ولا ريب، بحزن شديد على هذه المخالفة الكبيرة للحقيقة، تماما كما نشعر به نحن الذين سمعنا الاعتراف بالندم من أكثر من قيادي في الاتحاد.