لم يعد للوجاهة العشائرية ومنطق شيوخها في فرض وأملاء ما يبتغوه من قوانين مستحبة لهم ومستهجنة من شعب يطمح التطور مكان في برلمانات واجبها تفضيل الخدمة العامة وتقديمها على الخاصة.

لا أستطيع أن أُقلل من الملاحظة النقدية التي أبداها الأستاذ أنطون عطا الله المقيم في ولاية كاليفورنيا . فالرجل من أصل أرمني سوري وثقافته وتخصصه في شؤون الأمن القومي وشهادته من الجامعة البحرية الأمريكية ، أهلّته كأستاذ جامعي وكمراقب سياسي للأحداث المرة في سوريا والعراقي ولبنان أن يبدأ حديثه السياسي في أي لحظة دون مقدمات ورتوش ومجاملة.

في مقابلتنا هذه المرة ، أصابني بالدهشة وأنا أستمع أليه عن عراق عشائرية التصرف والأدارة في دولة الطوائف والعشائر التي يفتقد فيها الأنسان في أي لحضة حقوقه الطبيعية بنهج الدستور العراقي المشوه ،وأستغرابه الشديد لوجود مايسمى ( قانون العشائر) وتهليل الحكومة والمجلس النيابي له ، وهي مجموعة أعراف وقيم وعادات عشائرية متبعة ( بعضها مستحبة وأخرى مستهجنه ) و تفضيلها على قانون الدولة العراقية.

فتقييم الجرائم الأرهابية وأعمال التخريب والتفجيرات والقتل ودخول عناصر القاعدة والجهاديين التي حصلت طيلة السنوات الماضية كانت تتم بمعرفة عشائرية عربية وكردية وغض بعض رؤوس العشائر النظر عنها وتعمدت أستمراريتها لتعزيز ثقة الموالين وفرض أدارة الأمن الوطني بالأكتفاء بقوانين العشائر تطبيق العدالة.

ورغم محاولاتي الفاشلة القول أن سعي الحكومة لزيادة تثقيف أبناء المجتمع العشائري وربط قوانينهم وأعرافهم وقيمهم الجارية والتي قد تقلل من العنف العشائري وروح الأنتقام والثأر والأرهاب، وتربط المجتمع العشائري بقيم الدولة العصرية ، أِلا أن الأستاذ عطا الله يرى أن الأدارة العراقية الحالية عشائرية وتقوم على أسس هشة في عصر التطور السريع وحقوق الأنسان المحفوظة في نصوص الدستور وقوانين الدولة المُشرَعة في مجلس النواب.

ودوماً كان الرأي السائد هو أن القوة الثقافية والأقتصادية وأحترام قوانين الدولة هي التي تحفظ الدولة وقيمها من التشتت والزوال وعبثية نظام بأسم الشعب وليس بأسم رجل العشيرة . فليس لضخامة القوة العسكرية ومليشيات العشائر أي قيمة على المدى القريب والبعيد . القناعة الحقيقية لقوة الدولة هي قوة قانون الدولة وألتزام الأفراد به . وأضافَ بأن العراقيين يبنون الدولة الحديثة على أسس هشة سرعان ماتنفرط في عصر لايقبل بهذا البناء الأجتماعي العشائري وخاصة في مجتمعات تمتلك الموارد الطبيعية وأمكانات التطور العلمي السريع. ثم تطرق الى صلب الموضوع بالقول quot; دعني أُذكّركَ بأن بلاد الرافدين كانت أول دولة وضعت القوانين للعالم وعرّفتهم بها وأول مُشرّع لها هو حمورابي ومسلته ولوائح القوانين ونصوصها تعتبر من أقدم القوانين في العالم، وكانت تحتوي على 282 مادة تعالج مختلف شؤون الحياة ، وكانت تضع صورة الحكم العادل ليشمل حتى الخلاف القانوني البسيط كالتنازع على ملكية ثور أذا لم يُعرف مالكه ، و مازال طلبة القانون والسياسية والمنظمات الدستورية في الدول الغربية تدرس لوائحه التي تخص المجتمع وتزور ومسلته الشهيرة المحفوظة في متحف اللوفر في باريس.

حمورابي شخصية عسكرية كان له القدرة الإدارية والتنظيمية والعسكرية وحكم بابل عام 1792 - 1750 ق. م. وكانت بلاد الرافدين دويلات منقسمة تتنازع السلطة ،فوحدها مكوناً دول ذات نظم ضمت كل من العراق والمدن القريبة من بلاد الشام حتى سواحل البحر المتوسط.

عراق حقوق الأنسان ونهج الدستور المشوه وتفسيراته وتعليلاته العشائرية تثير حفيظة الكثير من الأساتذة والنقاد وقادة
المجتمع داخل وخارج العراق وتتدارسه أوساط سياسية وقانونية بشغف ويتطرقون أليه في أبحاثهم الأكاديمية.

ويلاحظ بأن قادة الكتل العراقية المتصارعة على السلطة يحاولون أقناع والعالم الشرقي والغربي بقناعاتهم الشخصية وأرهاقنا بثقافة سياسية مبتكرة عن الديمقراطية والفدرالية والدستور وقوانين الدولة العشائرية التي لاتمثل في أحسن صورها الدولة المدنية الحديثة التي يطمح أليها شعب العراق ومنظمات حقوق الأنسان الدولية.

المحور الأساسي لأنتخاب من هم في السلطة اليوم هو أحترامهم لحقوق الأنسان وممتلكاته وتحقيق خدماته. فالعراق ليس مزرعة تجارب لكتلة أو حزب أو حركة أو عشيرة أو مذهب أسلامي، ولن يكون رغبة أو طموح شخص في حكم شيعي أو سلفي ، قومي أو عنصري. فمثل هذا الطموح رجعي تقهقري تدعو أليه حركات أسلامية فكرية متعفنة ومتخلفة تقود حملات أرهابية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً. ومن الخطأ أن يصل أي عراقي الى أي أستنتاج خاص بأن الكتل السياسية بنواياها الألهية أو حلتها العلمانية التي تلبسها ستتقبل تطبيق دستور الدولة العراقية دون تشويه وضغط وكذب وأزاحة بعض الروؤس من السلطة بالطريقة العشائرية المعهودة . يسمونها معارك خلافات دستورية و تفسيرات جادة للألتزام بروح الدستور. ويصفها ممثلوهم من صناع الرأي العام وتزويق الأخبار quot; رغبة الشعب وضمان حقوقه quot;. هؤلاء الممثلون الذين نزل الوحي عليهم وأصبحوا بين ليلة وضحاها من دعاة الديمقراطية وخبراء الدستور وتقليعات جديدة لحفظ الأمن وأحترام حقوق الأنسان بمليشيات خاضعة تطوف في رقع ارضية يحتلها مواليهم وأنصارهم وتحمي الموارد والمزارع والأملاك والأرض المقتطعة عن جسم الدولة وبعلمها ويفرضون قوانين الخاوة وتقاليد عشائرية quot; مستحبة ومستهجنةquot; كما هي حالة رقعة الأرض التي تشغلها طالبان وعصابات الصومال لموارد الحشيش وأنتشارأعمال التهريب والجريمة المنظمة.

حقيقة الخلاف هو صفقات ألأبتزاز المالي وأراضي التقسيمات الفدرالية بعد السقوط النظام البائد ، حيث كثرت مجالس تحمل إسم العشائر والأكثرية منها أساء بشكل وأخر الى سمعة ومكانة هذة الشريحة المهمة بطرق لاتعود للقوانين الفدرالية بشيئ ، حيث لايتلكأ في الكلام عنها قادة الأبتزاز العشائري أنفسهم كما يتكلم عنها كل من له مصلحة وفائدة في أستمرار الفساد وعقد الصفقات المزيفة بأسم الشراكة الوطنية. القانون العشائري يتيح الفرصة للأقلية العشائرية وما تبتغيه من الأغلبية الشعبية دون وجه قانوني ويتيح لمن لاشأن ولامعرفة له بنصوص الدستور وأطر القراءة الصحيحة له ، ما يبتغيه من أبتزاز دون الرجوع الى قوانين الدولة ونصوص الدستور و بأراء هجينية تتناقض مع سيادة الدولة بتسليم أمورها عشائرياً لممثلي دول بالوكالة لاأدارة دفة البلاد.

والفوضى الحالية التي تأخذ صدىً أيجابياً وسلبياً في الشارع العراقي تتطلب التأكيد بأنه من الخطأ أيضاً أعتبار زيارات السيد مارتن كوبلر الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية في العراق أكثر من زيارة موظف مسؤول يتابع ويتناول في رسائل ومحاضر مقابلاته مع مسؤولين عراقيين ما يتباكى أليه ويتنازع عليه (غزاة عشائر لعشائر وماسُرق منهم من أرض وأبل وعشب ) بتقديم الشكاوى الشخصية أليه ( والرجل لايحل ولايربط ) ومسؤوليته السياسية لاتتعدى تقديم النصائح للحكومة العليلة وقادتها الملتزمون بالقانون العشائري وسطوته.

هذه النصائح الدولية الطابع والتي ( لها رنة خاصة في آذانهم ) هي ملخص مافي أستطاعة ربة بيت و بائع خضرة وعامل طابق عراقي أن يقدموها للمسؤولين وعشائرهم مجاناً دون جهد أو حاجة الى الأستنجاد بموظف مستمع خبير تابع للهيئة الدولية وليس الى لجنة عشائرية.

بأجماع العديد من الباحثين والصحفيين العراقيين الذين يعيشون في الخارج (والذين يدرسون أوضاعه بأستقلالية خارج محور التأثير والضغط القسري الداخلي الحزبي والعشائري والمذهبي) يعتقدون أن العراق بلا رصيد سياسي أجتماعي أو أخلاقي وطني بعد أن أنتزع قادته عن أنفسهم صفة القيادة وقانونية الدولة بأعترافهم بقانون العشائر وسريانه على المجتمع ، كما أنتزعوها عن بعضهم البعض بأعترافهم الضمني وأتهام كل طرف للطرف الأخر بالأرهاب والسرقة والتزوير والتهريب (وهي أمور تتم بمعرفة مخابراتهم ومليشياتهم).

ثم تأتي الطامة الأخرى بتسليم مهامهم العشائرية الى ممثلين من دول الجوار ومنظمة الأمم المتحدة لأيجاد حلول تتعلق بالأرض والأبل والشرعية حسب ماتراه (وفي أقليم كردستان على الأخص) . و تتكرر نداءات قادة الكتل المنتخبين عراقياً ألتماساتهم كعبيد لدول الخارج (أيران وتركيا على الأخص ) ودعواتهم المستنكرة لكسر السيادة العراقية على أرضه. والمهم أنه لايوجد أي جديد في أقوال ممثل الأمم المتحدة وأعرابه عن ( قلق المنظمة الدولية من الأوضاع التي يشهدها العراق في الوقت الحالي وبدعوة القوى السياسية العراقية إلى إجراء حوار مباشر بمشاركة الجميع وبأسرع وقت ممكن وأن خيار المقاطعة خاطئ ، خصوصاً أنه في حال تحدثت الأطراف . فمن الممكن حل المشاكل عبر الدستور).

وتتفق مطالبة الممثل الدولي مارتن كوبلر الحكومة العراقية لتقديم الخدمات مع أي عامل طابوق عراقي فهو يدعو الحكومة الى (توفير الخدمات للمواطنين وفي مقدمتها الكهرباء، فضلاً عن توفير الوظائف للخريجين وفرص العمل واستغلال ثروات البلاد ووضع جهودهم في خدمة الشعب ). ولاطائل في قيام الممثل الخاص للأمم المتحدة أجراء أحاديث مع مرجعيات سياسية ودينية عن (الوضع السياسي العام وقانون النفط والغاز وكافة المشاريع المتعثرة في العراق ).

فالنهج الدستوري المشوه هو ماترتأيه قوى عشائرية متنافسة على السلطة السياسية وتلتحف بالديمقراطية والدستور وفدرالية الدولة دون أن تفهم السبل الصحيحة لتطبيقها وتحاول أقناع طبقات المجتمع بمعتقدات الحلول العشائرية وجدواها بأعطائها (وظيفة قوانين) لاتصلح أِلا لمجتمع الحاشية المطيعة لرئيس العشيرة.


كاتب وباحث سياسي