مبكراً، وبالتحديد في عام 1994، نشرتُ في صحيفة )الحياة( الصادرة في لندن مقالا استباقيا مطولا خالفت فيه ما كان شائعا بين بعض القادة الكبار في المعارضة العراقية، يومها، حول النظام الفيدرالي المنوي إقامته في العراق، إذا ما سقطت الديكتاتورية وعادوا هم إلى الوطن، وعرضت حزمة من الأفكار حول الفيدرالية المطلوبة، ودعوت المعارضين إلى مناقشتها.

قليلون منهم تحملوا عناء التعليق على المقال، وكانوا من خارج دائرة القادة الكبار وحواشيهم، معتبرين ما ورد فيه أرضا صالحة لمزيد من النبت النزيه، لكن وعاظ القادة الكبار وكتابهم وصحفييهم ومدراء إذاعاتهم أهملوه تماما. ليس ذلك فقط بل عمد بعضهم، في مجالسه الخاصة، إلى تحميلي وتحميل مقالي ما لا نستحق من التشكيك في الدوافع والمبررات.
ولأن فيدراليتهم بلغت هذه الأيام شيخوختها، وأصبحت عبئا على أهلها، فلا يضير أن أعيد اليوم تكرار تلك الأفكار والتساؤلات والمقترحات، مع تعديلات اقتضتها طبيعة المرحلة الراهنة.

تكوين الدولة العراقية
قلت في مقدمة ذلك المقال إن الآباء العراقيين لم يخطئوا حين حاولوا إقامة دولة موحدة، رغم علمهم بأنها، في حقيقتها، خليط متنوع ومتعدد من القوميات والأديان والطوائف قد يكون قابلا للتناغم والتفاهم والتكامل والانسجام، وقد يكون متنافرا متباعدا ليس سهلا ضبطه والتحكم فيه، وقد ينفرط عقده عند أول ريح عاتية تهب عليه. وكانوا، في إصرارهم على صَهره في بوتقة الهوية العراقية الواحدة، مدفوعين إما بشهامة وطنية خالصة، أو بحسابات مصلحية ذاتية أو طائفية أو عرقية.

ولكن الأهم الذي يعرفه الجميع أن مصالح بريطانيا، وحدها، هي التي اخترعت الكيان العراقي الحالي، متغاضية، عمدا، عن مخاطر الجمع القسري والارتجالي العشوائي لذلك الخليط السكاني المتنافر، عرقياً ودينياً وطائفياً، في كيان واحد تقوده نخبة (العاصمة)، على هواها ووفق مصالحها، دون شريك.

وها نحن، بعد ما يقرب من قرن من الزمان، ومع تبدل الظروف الدولية، وزوال القوى التي رعت ولادة تلك الدولة، وظهور قوى جديدة تختلف مصالحها ومقاييسها عن السابقة، خرجت الشرائح المكونة لتلك الدولة من قشورها الخارجية، وظهر باطنها المخفي، وبدأ الصراع العلني والجاد والمُمنهج فيما بينها على الحقوق والموارد والنفوذ.

لقد أدرك أبناء الآباء الموحدين أن صيغة الدولة السابقة لم تعد تصلح لهذا الجيل ولا للأجيال التي سوف تليه. واكتشفوا أخيرا أن والتعايش السلمي بين جميع هذه الشرائح المتباينة في وحدة اختيارية لن يتحقق إلا بطريقين، إما بدولة جديدة تقام على أساس ديمقراطي علماني يوفر الحرية والكرامة للجميع، ويعترف بالمصالح والتطلعات والحاجات المتباينة لكوناتها، ولا يفرق بين أبيض وأسود، ولا بين طويل وقصير إلا بالمواطنة الصالحة وحدها، أو بصيغة أخرى من الدول، إما الفيدرالية التي تجمع بين أجزاء شبه مستقلة من الوطن الواحد، أو الكونفيدرالية التي تجمع بين دول مستقلة تماما ولكنها تتحد في كيان موحد تتفق عليه. وأغلب ما يجمع هذه وتلك مصالحُ مشتركة، مع احتفاظ كل طرف منها باستقلاله القانوني الخاص.

ولأن أغلب المواطنين العراقيين غير المُسيسسين من أبناء الشرائح كلها، تقريبا، أدركوا، بعد ما يقرب من قرن من الزمان أن مرارة التجربة السابقة وآلامها، أن مصالحهم ومستقبل أجيالهم القادمة لا تتحقق بانفصام عرى الوطن الحالي، بل ببقائه موحدا، ولكن في ظل نظام جديد يحقق العدالة والمساواة بين جميع المواطنينن، فقد أصبح لزاما على النخب السياسية الاستجابة لتك التطلعات، ومحاولة تفهما والعمل على تحقيقها.

وفي ضوء تجارب ثلاثة أرباع القرن التي لم تحقق الأمن والاستقرار للمواطن ينبغي الإقرار بأن سيطرة شريحة واحدة من الشرائح، بمفردها، على السلطة لا يمكن، وإن حدث فلن يدوم. وكل محاولة لفرض هيمنة العقيدة الواحدة أو الطائفة الواحدة أو القومية الواحدة لن تنتج سوى مزيد من الخراب والخسارة والندم.

البديل
وفي المقال آنف الذكر في صحيفة (الحياة) عام 1994 كنت قد اقترحت، بتواضع، صيغة معتدلة من الفيدرالية، ظننت أنها أكثر قدرة على طمأنة المتخوفين.
ويمكن إجمالها بما يلي :
1-إقليم كرستان: أربيل، السليمانية، دهوك، وأجزاء من محافظات الموصل وكركوك وديالى، بعد إجراء استفاء شفاف وعادل وحر .
2-الإقليم الشرقي: كركوك وديالى، مع أجزاء من صلاح الدين، وبالاستفتاء الحر أيضا.
3- إقليم الموصل: ويضم تكريت وسامراء.
4- إقليم بغداد، ويضم الأجزاء الباقية من صلاح الدين.
5-إقليم الأنبار.
6-إقليم العتبات المقدسة: كربلاء والنجف الأشرف.
7-إقليم الوسط: واسط، ميسان، ذي قار.
8-الإقليم الجنوبي: بابل، القادسية، المثنى.
9-إقليم البصرة.

مع إنشاء مجلس مركزي (مؤقت) يضم مندوبين عن تلك الأقاليم، يتم اختيارهم بالانتخاب الحر المباشر، بمعدل 4 مندوبين لكل إقليم، بالتساوي، وبصرف النظر عن كثافته السكانية ومساحته الجغرافية.

وكان المقترح أن يكون هذا المجلس هو المرجع الأعلى الذي يتولى أغلب صلاحيات السلطتين التشريعية والتنفيذية، مؤقتا، لمدة محددة بعام أو عامين، ويقوم باختيار حكومة مرحلية يكون أعضاؤها (تكنوقراط) مستقلين عن الأحزاب، لتقوم بإجراء تعداد سكاني نزيه خال من التزوير والتلاعب، وتضع لنا دستورا عادلا وعاقلا، وتصوغ قانونا انتخابيا جديدا يضمن إجراء انتخابات عادلة ونزيهة تتمخض عن فوز المرشح على أساس برنامجه الانتخابي وليس لونه الطائفي أو القومي أو الحزبي أو المناطقي.

وقبل ذلك كله، وبعده، ينبغي إعادة بناء المؤسسات على أساس الخبرة والكفاءة والنزاهة، لا على أساس الولاء الحزبي أو الطائفي أو القومي. وكنت قد طالبت، في ذلك التاريخ المبكر، بمنع جميع الأحزاب والفئات من تشكيل مليشيات مسلحة، تحت أي عذر من الأعذار، وحصر السلاح بالأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للدولة المركزية وحدها.
وها نحن، في العام 2012، بعد تسع سنوات من التشرذم والتمزق والاحتراب، أصبحت تلك المقترحات غير كافية لمنع الحروب الأهلية المقبلة وتجنيب العراقيين أهوالها المقبلة.
فهم لم يقيموا دولة فيدرالية حقيقية، بل شراكة مصالحية تقاسمت فيها الأحزاب القوية محافظات ووزارات ومؤسسات.

ثم كتبوا دستورهم الجديد الذي وصفوا فيه النظام الجديد، بمباركة المحتل، بأنه فيدرالي تعددي ديمقراطي، وهم يعرفون، قبل غيرهم، بأنه ليس كذلك، ولن يكون.
وكان طبيعيا ومتوقعا أن تندلع المعارك بينهم، عاجلا أم آجلا، على الثروات التي توجد في مناطق، ولا توجد في مناطق أخرى. كما أن عقدة (الأنا) العراقية المتوارثة لابد أن تقود إلى إعادة إنتاج شخصية (القائد الوطن) فتشتعل حروب الهيمنة والتسقيط، مبطنة حينا، وعلنية مدوية أحيانا أخرى.

ولو استعرضنا مسيرة السطو المبرمج الذي قامت به أحزاب الإسلام السياسي المدعومة بقوة إيران للاستحواذ على السلطة واحتكارها نلمس مقدار بغضها للديمقراطية، ونفرتها من الفيدرالية، ومن كل من ينادي بهما، دون خوف ولا حياء.

والتصاق نوري المالكي بكرسي الرئاسة، ومراوغاته وتحدياته، وعدم استعداده للالتزام بدستوره الفيدرالي، ولا بتعهداته السابقة المتعلقة بالتداول السلمي للسلطة، والتفاف حلفائه في البيت الشيعي، حوله، في مواجهة الرياح العاتية، دليل على أن النظام ( الفيدرالي الاتحادي) الذي اخترعوه يوم سقوط الديكتاتورية مخصص فقط للقائد الأغنى والأقوى والأشد، والأكثر جندا وسلاحا، والأوفر حظا لدى الولي الفقيه. وصيغة الحكم الوحيدة التي يوفرها المالكي وحلفاؤه هي صيغة التابع والمتبوع، والحاكم والمحكوم، ولكن بغطاء ديمقراطي فضفاض لا يستر العيوب.

وأكثر ما يخيف هو نزعة العنف المدوية التي تكشفت في شخصية نوري المالكي، والتي فاجأت الجميع. فقد عمد إلى بناء قوات مسلحة مترامية الأطراف تأكل من يده وتأتمر بأمره وحده لا شريك له.
بالمقابل وصل خصومه، قادة إقليم كردستان والعراقية، إلى نقطة اللاعودة في خصامهم معه. وها نحن أمام مأزق لن يؤدي إلا إلى ثلاث حالات، جميعُها كريهة وصعبة ومدمرة.
الأولى أن يلتزم المتخاصمون بحدود المناوشات الكلامية الفارغة، لإبقاء الوضع على ما هو عليه من التشرذم وجمود الحكومة وتوقف المشاريع، خصوصا إذا مضى الكورد قدما في استخراج النفط وتصديره وحرمان المركز من عوائده، ولحقت بهم نينوى، وربما كركوك.

الثانية أن تتدخل القوى الخارجية، أمريكا وإيران، بشكل خاص، وتأمر الجميع بالعودة إلى الموائد المستديرة، والتعايش الاضطراري، ولو إلى حين، وهذا مستبعد إلى حد كبير.
أما الثالثة أن يلجأ المالكي إلى شن حروب متقطعة، غير معلنة، بالكواتم والملفات المُعدة التي يهدد خصومه بفضحها إن اضطر لذلك.

والأكثر توقعا أن يعمد الخصوم إلى تحريك الشارع في انتفاضة شعبية في بغداد والوسط لإسقاطه، بعد أن فشلوا في إسقاطه برئاسة الجمهورية والبرلمان. عندها ستشتعل بغداد والمحافظات المُختلـَطة والمناطق المختلف عليها، وسيفعل نوري المالكي ما لم يفعله البعثيان اللدودان، صدام حسين وبشار الأسد، بالمنتفضين.
هذه هي فيدرالية رفاقنا المعارضين السابقين حكامنا الحاليين. أليست فيدرالية خمس نجوم؟.