لنتابع الوقائع الاخيرة بشكل منطقي وهادئ: عند انطلاقة الثورة السورية قبل عام ونصف كان الجميع وفي مقدمتهم المعارضة السورية يعتقدون جازمين بان تركيا هي القوة الوحيدة القادرة على اسقاط النظام السوري. لاحقا تبين ان كل الاستراتيجية التركية لم تكن تتعدى التهديدات الكلامية ظنا منها ان التاريخ سيتكرر باستسلام النظام كما حدث في عام 1999عندما تخلى الاسد الاب عن كل وعوده لحزب العمال الكردستاني وزعيمه السيد عبدالله اوجالان.

في الاشهر التسعة الاخيرة بدأت الحقيقة تظهر بان الوضع التركي ضعيف وان سوريا هي التي تتحرش بتركيا وتريد جرها الى الميدان بعدما تأكدت من حقيقة الوضع التركي المهزوز ولعدة عوامل منها:

اولا: القضية الكردية في تركيا والحرب الدائرة مع حزب العمال الكردستاني منذ ثلاثين عاما.
ثانيا: وقوع تركيا بين الكماشة الطائفية السورية الايرانية.
ثالثا: الاقتصاد التركي القوي القائم على اساس الاقتصاد الحر والرأسمال الخارجي. مثل هذا الاقتصاد قابل للانهيار خلال ايام عند الازمات، واليونان واسبانيا وغيرها امثلة لاتحتاج الى المزيد من الايضاح.

سوريا اسقطت الطائرة بشكل متعمد وأكدت في الوقت نفسه ان هذا سيكون مصير اية طائرة اخرى تسلك نفس الطريق وبكل تحدي.

اسقاط الطائرة اصابت الحكومة والشعب التركي بالذهول. قال بعض المحللين السياسيين ان الحكومة التركية اصابها الغرور في السنوات الاخيرة وصارت تعتقد وتتصرف كانها دولة عظمى بدءأ من الوساطة بين سوريا واسرائيل ومن ثم التصغير من حجم الدولة العبرية سواء عبر الهجوم الذي شنه السيد طيب اردوغان على الرئيس الاسرائيلي السيد شمعون بيريز في دافوس، وبعدها محاولة ارسال سفينة مرمرة الى غزة ومن ثم لعب دور الوساطة في ازمة الطاقة النووية الايرانية. كل تلك الادوار انتهت بالفشل الذريع، واقساها كان مقتل الاتراك على يد الجيش الاسرائيلي في المياه الدولية في المتوسط وليس في المياه الاقليمية الاسرائيلية في حادثة سفينة مرمرة الشهيرة.

في بداية الانتفاضة السورية ايضا شمرت تركيا الذراع للعب دور الدولة الكبرى ولكن باسترتيجية التهديد والوعيد ضد النظام السوري، ووصلت الامور بتركيا الآن الى الاستغاثة بحلف الناتو حسب البند الرابع والخامس وذلك بعد تخبط وبلبلة هزتا انقرة على مدى يومين كاملين من اجتماعات متواصلة. النتيجة جاءت بعد اجتماع الحكومة لمدة سبعة ساعات متواصلة، وانتهى بان تركيا سوف تتصرف بعقلانية ومن خلال القوانين الدولية وان الرد العسكري او الحرب مرفوضان تماما، وجاء ذلك على لسان السيد بولند آرنج نائب رئيس الحكومة.

الكثيرون ولاسيما المعارضون السوريون كانوا يوزعون الاماني والاحلام الوردية بقرب تدخل حلف الناتو وذلك بتفعيل المادة الرابعة والخامسة للحلف، والتي تنص على ان اي اعتداء على اية دولة من اعضائها يُعتبر اعتداء على كل الدول. عدد اعضاء دول الحلف هو 28 دولة. هذا الحلف التاريخي العريق وتجاربه منذ ايام الحرب الباردة تقول انه لا يمكن ان يُقدم على خطوات ارتجالية بسبب تهور احد اعضائه. هذا ظهر واضحا بعد الاجتماع الاخير بلحلف والذي انتهى بكلام يطيب الخواطر والعواطف التركية.
لماذا تصرف الحلف بهذه الطريقة ولم يلمح الى اي اجراءات عسكرية رادعة؟.

في الاجتماع تم التحقيق مع تركيا بانها هي المسؤولة عن تصرفاتها بناء على:
اولا: ان تركيا تعلن وبصريح العبارة عن دعمها لاسقاط النظام السوري.
ثانيا: تركيا فتحت حدودها امام الجيش الحر وقدمت له كل الدعم اللوجستي الممكن.
ثالثا: تركيا لعبت الدور الاساسي في تشكيل المجلس الوطني السوري ووو.....الخ.

الحلف اثار انتباه تركيا موضحا بان كل ماورد اعلاه انما هو اعلان حرب على سورية، وفي الحروب ستكون هناك معارك بما فيها اسقاط الطائرات.

بالمختصر اراد الحلف ان يبين لتركيا انها تتحمل مسؤولية تصرفاتها ومواقفها وان الحلف ليس على استعداد لفتح معارك مع روسيا والصين والعودة الى ايام الحرب الباردة والتي تتمناها الدولتان للانتهاء من هيمنة القطب الواحد اي امريكا.

تركيا في ازمة حقيقية والسيد اردوغان سوف يتعرض الى حملة شعواء من قبل خصومه بعد ان تهدأ العاصفة وزوال الهيجان العاطفي هذه الايام. وكل فرد في تركيا يشعر بهدر عميق في كرامته بسبب الضربات التي تتلقاها تركيا من النظام السوري، والتي لم تعد محصورة فقط في اسقاط الطائرة، بل سبقها الاستهتار السوري باتفاقية اضنة، والتي تمنع القوات العسكرية السورية من الاقتراب خمسة كيلومترات من الحدود، ولكن هاهي تجول وتصول وتقتل السوريين حتى في داخل الاراضي التركية.

لماذا هذا الوضع التركي المهلهل؟.

السبب هو القضية الكردية. ادعائي هذا ليس سببه هو انتمائي الى القومية الكردية. اذ ان كل واحد من ثلاثة من سكان تركيا ينتمي الى القومية الكردية. الدولة التركية حاربت الكرد لمدة قرن وانكرت حتى مجرد وجودهم، وقالت لهم: انتم اتراك غصبا عنكم. حاربت الكرد في لغتهم وفرضت عليهم الفقر والتخلف وووو...الخ. هل يمكن للكرد ان يقفوا الى جانب من انكر وجودهم وحاربهم في هويتهم؟. هذا هو مصدر الهلع التركي.

الدولة التركية تعرف جيدا هذا الواقع وتعلم جيدا مدى الخطر الذي يهدد وجودها في حالة الدخول في حروب في المنطقة.

نحن نريد حل القضية في تركيا والحقد والانتقام لن يحل اية مشكلة. حل القضية سوف يفك الاصفاد التي جعلت تركيا اسيرة هذه القضية. بالعكس تماما نريد الاستفادة من التقدم الحاصل في تركيا مقارنة بجوارها المتخلف.
لهذا ايضا وقع الصياد، اي تركيا، في المصيدة التي وضعتها للنظام السوري.

لقد خسر الكرد والترك الكثير لمدة ما يقرب من قرن وحان الوقت لشطب هذه الصفحة السوداء وبناء الدولة المشتركة مع المساواة التامة في كل شيء.عندها فقط تصبح تركيا دولة كبرى، وتصبح قبلة الكرد في الجوار ايضا.

للمزيد حول الوضع التركي نشرت quot;ايلافquot; حديثا لي في نيسان تحت عنوان: تركيا من دولة كبرى الى دولة مشلولة.



مختص بالشأن التركي
[email protected]