ليس كل تمرد ثورة على الإطلاق. غير أن كل ثورة تنطوي، في المقابل، وفي عدد غير يسير من أبعادها ومضامينها وأساليب اشتغالها، على ما يمكن اعتباره تمردا على السائد، ومحاولة الإطاحة بقوانينه وأحكامه جزئيا أو كليا.
إن الثورة تمرد في الأسلوب لتحقيق أهداف ثورية في عمقها مقارنة بطبيعة الواقع السائد الذي يراد تغييره، والقطع معه بصورة جذرية. أي إنها تحمل في كثير من الأحيان البديل المجتمعي والسياسي للحالة القائمة، بغض النظر عن طبيعتها التقدمية أو الرجعية، وعن أي حكم قيمة آخر يمكن أن تصدره هذه الجهة أو تلك في حقها، بحسب زاوية النظر التي تنطلق منها لإصدار حكمها الإيجابي أو السلبي. وأساسا نظرا للمصالح المادية والمعنوية التي تتوخى تحقيقها أو المحافظة عليها والدفاع عنها. وهي بطبيعتها مصالح متنوعة ومتحركة بحيث لا يمكن الحديث عنها إلا في عينيتها في الزمان والمكان. وبطبيعة الحال، فإن حديث المصالح الملموسة لأطراف صراع اجتماعي أو سياسي ما، هو الذي يحدد لكل منها المواقع التي تنطلق منها، ويعين لممارساتها سقوفها العالية أو المنخفضة بهذه الدرجة أو تلك. أي إن هذه المصالح هي التي تضع هذا الطرف في موقع التمرد أو الثورة بينما تبقي الآخر في مواقع المحافظة على السائد تارة وفي موقع الثورة المضادة أحيانا أخرى.
وبهذا المعنى يمكن القول باطمئنان: ما أكثر مظاهر وأشكال التمرد، وما أقل مظاهر وأشكال الثورات في التاريخ السياسي القديم والحديث. وفي معرض التمييز بين التمرد والثورة يمكن الإشارة إلى عدد من العناصر التي تضع الخطوط المميزة بين هذا وتلك، وإن صح الحديث عن طابعها النسبي، خاصة أن التمرد قد يتحول، في أحيان كثيرة، إلى ثورة عارمة متى توفرت له شروط هذا التحول في الزمان والمكان. وفي هذا السياق يمكن القول: ليس ضروريا أن يحمل التمرد مشروعا سياسيا ما. ذلك أنه في عمقه شكل من أشكال الاحتجاج على أوضاع لا تملك القوى التي أقدمت عليه القدرة على تصور بديل عنها. أو إنها ليست قادرة على التريث والصبر في انتظار نضج البديل المتكامل فتتأبطه في معركتها من أجل فرض تطبيقه على القوى السائدة التي تناوئ هذا البديل، وتعمل على إسقاطه بكل الوسائل بما في ذلك العنيفة منها. أي إن الضغوط التي واجهتها على درجة من القوة والعنف المادي والمعنوي، بحيث تدفعها دفعا وتفرض عليها التحرك السريع وإطلاق صرختها.
وبهذا المعنى فإن التمرد، في بعد أساسي من أبعاده، دعوة موجهة إلى قوى النظام السائد تطالبها بقراءة رسائل التمرد قبل فوات الأوان. وقراءة هذه الرسائل تعني الاقتراب من نبض الجهة المحتجة والإنصات إلى مطالبها والتعاطي معها بدرجة معينة من الجدية، ومن الإيجابية، وبلغة خاصة تقطع مع لغة القمع والعسف التي كثيرا ما كانت الأسلوب النمطي السائد لدى العديد من الأنظمة السياسية التي لا يربطها بلغة الحوار والتفاوض، بحثا عن التسويات الممكنة، أي رابط يذكر. إن هذا التفاعل الإيجابي مع مطالب التمرد هو المدخل الحقيقي إلى الإصلاح الجزئي أو الشامل على السواء. وعليه فإن كل تجاهل لرسائل التمرد، وكل محاولة لمحوها عبر محاولة تدمير القوى الحاملة لها والعاملة على نشرها وإشاعتها، لا يعني تأجيل المعالجة الواقعية والممكنة للمشكلة الملموسة القائمة فحسب، بل يعني، أيضا، وربما أساسا، العمل على تعفين المشكلة، وجعل إمكانية معالجتها، بالوسائل الطبيعية العادية، مستقبلا من قبيل المستحيل بالنسبة للدولة والنظام السياسي، كما بالنسبة لقوى التمرد التي تكون قد دخلت، هي أيضا، في ديناميكية خاصة، لا تملك، في أغلب الأحيان، كل مفاتيحها، ولا تتحكم، بالتالي، في طبيعة صيرورتها العملية. فهل يمكن القول إن التمرد دعوة للحوار بأساليب خاصة وغير مألوفة مع العلم أنه غالبا ما يتم إنهاء التمرد وسط حمامات دماء المتمردين والقوى السائدة على السواء، لاسيما عندما تصل المواجهة بين القوى المتصارعة إلى ذروتها؟
فمما لا شك فيه أن اعتماد الحوار المسؤول مع التمرد التلقائي غير المؤطر من قبل قوى داخلية أو خارجية تتجاوز الأسباب المعلنة للتمرد لخدمة أجندات خاصة يؤدي في غالب الأحيان إلى نهاية سعيدة تمكن الدولة من معالجة مشكلة متفجرة بطرق غير عنيفة. وبذلك تعيد إلى القطاع الذي شهد التمرد انسجامه وتماسكه الضروري للاستمرار في أداء وظيفته الأصلية.
إن حكمة القيادة السياسية، في أي بلد من البلدان، وفي حالات الأزمات السياسية الحادة على وجه الخصوص، تقاس بقدرتها على إبداع واعتماد الحلول السياسية الكفيلة بنزع فتيل تلك الأزمات بما يعيد للعلاقات الاجتماعية والسياسية بين مختلف أطراف الحياة السياسية توازناتها التي تسمح بالفعل على طريق تجاوز مفاعيل تلك الأزمات والانتصار على أسبابها. وهذا يعني أن تركيز التفكير والعمل على ضرورة القضاء على القوى التي تغذي الأزمة، وتعمل على تفاقمها، إذا لم يترافق مع تصور إيجابي للمخارج السياسية المتفاوض عليها بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع حاملي المشاريع السياسية المضادة، لن يؤدي إلى إعادة الحياة السياسية في البلاد إلى مجاريها الطبيعية، حتى مع افتراض قدرة القيادة السياسية على قمع ما تعتبره قوى الثورة المضادة. على اعتبار أن كل حل يقوم على عوامل القوة المتوحشة لا يمكن أن يصمد إلى ما لا نهاية. ذلك أن مختلف تجارب الشعوب قد أكدت أن عمر هذه الحلول قصير، بالضرورة، ما دام الحل لم يمس جوهر العوامل التي وراء الأزمة، وما دامت أطرافها تشعر بالغبن الاجتماعي أو الاقتصادي والسياسي جراء الحل المفروض عليها على قاعدة شروط موازين القوة غير المتكافئة بينها وبين النظام السياسي والطبقات والمصالح الاجتماعية والسياسية التي يمثلها ويعمل على إدامة وتأبيد مصالحها.
وبطبيعة الحال، فإن الأزمات السياسية لا تتساوى ولا تتماثل في جميع أبعادها، وليست، بالضرورة، وليدة ظروف وشروط متطابقة فيما بينها. لذلك فإن تشخيص كل أزمة بما هي حالة خاصة هو المدخل الذي لا غنى عنه لجعل أفق حلها ممكنا، وبأقل التضحيات والخسائر الممكنة.
غير أن هناك مبادئ عامة لا تخلو كل أزمة من الخضوع لمقتضياتها إذا ما أريد لها أن تجد طريقها إلى الحل القابل للحياة والاستمرار.
ومن بين هذه المبادئ يمكن الإشارة إلى ما يلي:
أولا: الانطلاق من أن التطور الاجتماعي والسياسي غالبا ما يسلك طريق الأزمات في عملية الانتقال من طور إلى آخر. ومن هذه الزاوية فإن الأزمة ظاهرة ملازمة لحياة المجتمعات والدول على اختلاف أنماط الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تقوم عليها. أي إن الأزمات عنصر ملازم لكل المجتمعات خاصة في المراحل الانتقالية التي تمر بها من فترة إلى أخرى، ومن طور إلى آخر من أطوار تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ثانيا: إن اعتبار الأزمة عنصرا طبيعيا يقتضي التعامل معها ليس كحالة مرضية مستعصية على العلاج، وإنما باعتبارها مكونا طبيعيا من مكونات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الذي ينبغي التعامل معه وفق طبيعته هذه، وبما يمكن المجتمع من استمرار مساره التطوري.
وهنا أيضا يلعب عامل القيادة السياسية الحكيمة دورا محوريا في التمييز بين أزمات النمو التي تتطلب معالجة تتلاءم مع عناصرها التي قد تتخذ شكل الاحتجاج والتمرد ومختلف أشكال الرفض التلقائية للأوضاع القائمة، وبين الأزمات البنيوية التي تستدعي معالجات جذرية وبنيوية تؤمن إحداث القطيعة العميقة مع النمط السائد على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية قبل وقوع الانفجار الثوري، لأن انسداد الآفاق أمام الإصلاح الجذري هو بمثابة الصاعق المفجر للثورة.
كاتب وباحث مغربي
- آخر تحديث :
التعليقات