طرح موقع الوسط العراقي سؤالا ذكيا يقول: لماذا يهزم المالكي خصومه في كل مرة؟ والجواب الفوري من المواطن العراقي البسيط هو: لأنه صغير، ولأنهم، جميعا، أصغر منه بكثير. وتفسير ذلك كما يلي:
إن العراق من عام 2003 لم يعد دولة، بل صار مجموعة دول صغيرة متناثرة يحكمها وكلاء صغار يعملون لدى أربعة مستثمرين كبار، هم أمريكا وإيران والسعودية وتركيا. وعلى عدد الجزر التي يستحوذ عليها كل لاعب، وعلى حجم ثروتها وقوتها، يكون مقدار حظ هذا الوكيل من الجبروت والصمود أمام عواصف اللاعبين الكبار والصغار، على حد سواء.
هناك محافظات مغلقة لإيران، وأخرى مغلقة للسعودية، وأخرى لتركيا، وفي جميعها تدور أياد ٍ خفية لأمريكا، بشكل خاص، منخرطة في لعبة شد الحبل العراقية المستمرة، ولا تتوقف.
وما معارك الخصوم مع نوري المالكي إلا خلاف الشركاء الصغار والكبار على الحصص والمكاسب. أما الوطن والدستور والديمقراطية التي يتغنى بها الجميع وتتردد أهازيجها في رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء والبرلمان وصحف الأحزب والمليشيات المتآخية وفضائياتها فمجرد هواء في شبك، وحبر على ورق، وعدة شغل يستخدمها اللاعبون لإلهاء الرعية ولتمشية الأمور بالتي هي أحسن، بدون وجع راس.
قد يعترض كثيرون من قرائنا الكرام على هذه المقولة ويعبرونها تشاؤمية مُحبطة لأحلام العراقيين وتطلعاتهم إلى نهاية ٍ سريعة لهذا المأزق المظلم الطويل. ولكي نكون أكثر وضوحا تعالوا نتأمل الصورة الواقعية للعراق كما هي، دون تزويق ودون لف ودوران، وبالتجرد من عواطفنا ونزعاتنا القومية والدينية والطائفية والمناطقية، قدر المستطاع.
فأهم خصوم المالكي هم القائمة العراقية والجبهة الكردستانية والتيار الصدري. وقبل أن أدخل في تفصيل الحديث عن معارضة العراقية والجبهة الكردستانية والتياتر الصدري، أرى لزاما أن أبدا بالمعارضين لنوري المالكي من داخل بيت الطاعة الشيعي ذاته.
فمجلس عمار الحكيم، وتيار إصلاح إبراهيم الجعفري، ومنظمة هادي العامري، ومؤتمر أحمد الجلبي، معارضون حقيقيون لنوري المالكي، بصفته الشخصية، بسبب نزعاته التسلطية داخل الائتلاف الوطني وغروره وتعاليه عليهم جميعا وتصميمه الخفي عفلى تقليم أظافرهم القصيرة أصلا في الشارع الشيعي، ومعارضون حقيقيون لحزب الدعوة وجموحه الطافح المندفع بلا هوادة ليحتل مكان الصدارة المُطلقة داخل محيطه الشيعي ذاته، قبل محيطه الوطني العراقي الشامل، تماما كما كان حال حزب البعث داخل معسكره السني والوطني العراقي العام. فتراهم يعارضون المالكي ويشاكسون حزب الدعوة، وخاصة في فضائياتهم ومنابر حسينياتهم، بل يشنون عليه حملات تجريح وتجريم وتحجيم فاقت في بعض حالاتها حملات التشنيع والتقريع التي تشنها القائمة العراقية على غريمها الحميم الذي انتزع منها رئاسة الوزارة باسم الدستور وبحكم القضاء (العادل المستقل غير المسيس)، لكنهم جميعا، عند ساعة الخيار بين نوري المالكي وخصومه السنة، عربا وكوردا وتركمانا، تجدهم يبلعون ألسنتهم، ويعودون القهقرى إلى بيت الطاعة الإيراني، والتسليم للمالكي بالقيادة، وأبوك ألله يرحمه.
وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن الآخرين نتساءل عن اللاعب الأمريكي المتمترس داخل أحزب عراقية عديدة وصحف وفضائيات ومشاريع تنموية (منهوبة برضا الممول الأمريكي نفسه وتحت بصره وسمعه، وهو مطنش) هل صحيح أنه لا يريد استمرار حالة اللاحرب واللاسلم العراقية المستمرة من عام 2003 وإلى اليوم؟، وهل يريد فعلا أن ينصر أحدا من خصوم النفوذ الإيراني على رجل إيران الوفي نوري المالكي، رغم ضيق السياسة الأمريكية المعلن من نفوذ إيران في العراق، ومن هيمتها على السلطة الدينية الحاكمة فيه؟. وهل هل تريد أمريكا فعلا أن تقلص النفوذ الإيراني في العراق؟ ثم هل ستكون مصالحها في مأمن إذا تربع أياد علاوي أو طارق الهاشمي أو صالح المطلق أو النجيفي على عرش العراق؟ وهل من سياستها البعيدة أن تجعل السعودية أو تركيا، في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة ومن مسار الصراع الطائفي الشيعي السني، تتسلم حكم العراق؟
بالمقابل، هل إن إيران الممسكة بتلابيب السلطة الحاكمة، رغم مشاركة وزراء القائمة العراقية والجبهة الكردستناية فيها، تريد فعلا أن تتخلى عن نوري المالكي المشاكس والمتلاعب والمتذبذب الذي يزعجها أحيانا، (وهي العارفة ببواطن الأمور)؟ وهل هي تريد فعلا ان يقلب ظهر المجن لولية أمره أمريكا، أم إن لها مصلحة حامية وساخنة في بقائه مسمار جحا في البيت الأمريكي في العراق؟
إن علاقة نوري المالكي المتينة والمتوازية باللاعبيْن القويين، أمريكا وإيران، هي التي تجعل منه مشروعا مقبولا ومأمونا لضمان المصالح الأمريكية والإيرانية (المتصالحة اضطراريا)، على الأقل في المدى المنظور. وهي أيضا ما يجعله مفضلا، لدى الأمريكان والإيرانيين معا، للبقاء مدة أطول، رغم كل ما يفعله اللاعبون الصغار الآخرون.
تأملوا الصورة. من هو المؤهل لوراثة المالكي من القائمة العراقية والجبهة الكردستانية والتيار الصدري؟ الجواب: لا احد.
فالكرد لا يريدون ولا يقبلون أصلا بتسلم القيادة الفعلية في بغداد. لأن ذلك يحول اللعبة من فيدرالية إلى دولة عراقية من نوع آخر، مركزية موحدة، يفوز فيها مرشح كردي بأغلبية اصوات الناخبين في كربلاء والنجف والعمارة والناتصرية والكوت. وفي هذه الحالة يواجهون إيران صراحة، ويدخلون معها معارك كسر عظم هم في غنى عنها. وقد يستحقون غضب الأمريكان وضغوطهم ومخططاتهم للمنطقة والعراق، وهم أيضا في غنى عنها. ولو لم تكن الأمور كذلك لكان الدكتور برهم صالح أنسب رئيس وزراء عراقي في المدى المنظور.
لذلك فإن معارضة الكورد للمالكي لا تتعدى أمورا محددة، هي مسألتان، المناطق المختلف عليها ( وليس المتنازع عليها)، والنفط، وكان الله يحب المحسنين. وهذه النقاط العالقة بين الجبهة الكوردستانية والمالكي لا تستحق من الكورد أن يخوضوا معارك كسر عظم لا داعي لها. فهم يسايرون العراقية والتيار الفصدري ولكن إلى حد، وإلى حين محدد، ليس أبعد ولا أكثر ولا أشد. ولو عاد المالكي غلى عقله ووعد بنية صافية بعودته إلى التفاهم الجاد حول هاتين المسألتين لكف الكورد عن المعارضة، ولصاردت ديكتاتوريته المُشتكى منها، كورديا، أمرا غير مهم، وتخص العرب العراقيين وحدهم، (فخار يسكر بعضه)، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
أما القائمة العراقية فأغلب أسباب معارضتها لنوري المالكي إما شخصية ( أياد علاوي والهاشمي وصالح المطلق والنجيفي) وإما مدفوعة الثمن من دول مجاورة تضع مصالحها الخاصة في ثياب عراقية زاهية. وقليل منها جدا وطنية عراقية خالصة. فمَن من قادة القائمة العراقية أثبت، بالدليل القاطع العملي، وعلى مدى عشر سنوات، أنه رجل وطني حقيقي يأمر نوابه في البرلمان بإجازة مشروع إيصال الماء الصالح للشرب أو الكهرباء إلى قرية شيعية في الجنوب ربما تقوي نفوذ نوري المالكي فيها، وربما تضيف لدولة القانون أصوات ناخبين جدد إذا حان وقت اللزوم؟ لا أحد.
ومن من زعماء العراقية تهمه القومية العربية والقيم الطائفية السنية ويضعها في قمة مبادئه الثابتة ويقرر في ضوئها وعلى أساسها مشاركته أو عدم مشاركته في السلطة، نائبا لرئيس الجمهورية أو لرئيس الوزراء؟
وإذا كان كبار زعماء العراقية يشكون من عمالة المالكي لإيران، ويأخذون على وزرائه ومستشاريه خضوعهم لتعليمات السفارة الإيرانية وأوامرها، فمن منهم يرفض أو يعاند أو يتمرد على مكالمات هاتفية من الرياض أو أبو ظبي أو الدوحة أو أنقرة أو عمان تشير بهذه وتنصح بتلك وتمنع عن ذاك؟
وإذا كان كبار زعماء العراقية يهاجمون المالكي ويدعون إلى استجوابه بتهم مخالفته للدستور، واستغلاله للنفوذ، وتسلطه على الوزارات الأمنية والمؤسسات الوطنية الحيوية، وإهداره للمال العام، وحمايته لحرامية ومختلسين، ودفاعه عن إرهابيين، وضلوعه في التعذيب في سجون سرية، وقد تكون جميع هذه التهم صحيحة، فمن منهم لم يستغل نفوذه، ولم يتستر على مهربين، ويحمي حرامية، ويمول قتلة وإرهابيين، ولم يهدر المال العام، ولم يحاول الهيمنة على المؤسسات والدوائر في المحافظات التي جعلها الله والأمريكان من ممتلكاتهم، بموجب قوانين المحاصصة سيئة الصيت؟
أما التيار الصدري فحكايته أشد إيلاما من حكاية العراقية ومن غيرها. فيوما مع الرحمن، ويوما مع الشيطان. يوما مع المالكي ويوما ضده. يوما مع سحب الثقة ويوما ضد فكرة الاستجواب، (لأنها تفرق الصفوف).
هذا التيار الذي ارتكب من الجرائم ما يكفي لمحاكمة قائده ومرشده الأعلى في محكمة العدل الدولية لأنها جرائم تطهير عرقي، بالدليل القاطع وبالوقائه والتواريخ والبراهين الموثقة، وجرائم ضد الإنسانية ارتكبها بموجب سياسة عليا أقرها زعيم التيار شخصيا وأسهم فيها بيده أو بأمره أو بفتوى من فتاواه التي لم يجف حبرها بعد.
فهل يصلح قاتل لمحاكمة قاتل؟ ومزور شهادة لمعاقبة مزور شهادة، ووقائد مليشيا طائفية لحبس قائد مليشيا طائفية أخرى؟
ومع كل هذه المآخذ الصارخة هل يؤتمن واحد كمقتدى مُصلحا وداعية للعدل ومدافعا عن الديمقراطية وعن الوطنية الخالصة؟
وفي ختام كل هذه التساؤلات نسأل، هل يستطيع مقتدى فعلا أن يخوض الشوط إلى آخره ضد الولي الفقيه، إذا ما أمره بالكف عن خزعبلاته الصبيانية المتهورة، والتوقف عن مشاكسة نوري المالكي والاصطفاف معه لا ضده؟
ومن نكد الدنيا على العراق اليوم أن يصبح مقتدى قائده الأقوى، ومقرر مصيره وراسم مستقبل اجياله القادمة، وأن يكون نوري المالكي وأياد علاوي والهاشمي والعامري والأديب والجعفري والجلبي والحكيم أصحاب اليد العليا في تقرير مصير الملايين من العراقيين، ليس اليوم فقط بل غدا وربما بعد غد.
الآن فقط أستطيع أن أجيب على سؤال الموقع العراقي، لماذا يهزم المالكي خصومه في كل مرة، فأقول، سيظل يهزمهم إلى أن يتغير اللاعبون الكبار، وإلى أن تتغير قواعد اللعبة، وإلى أن يهزم القرش الأبيض طيور القرش الأسود، ذات يوم.
والمالكي ينتصر على خصومه ليس بقوته ولا حنكته كما يشاع، بل بضعف خصومه وهزالهم وعدم نزاهتهم ووساخة قلوبهم وجيوبهم، وفساد وطنيتهم، والعياذ بالله.
والحق يقال، ليس بين المالكي وخصومه مغلوب، فكلهم غالبون ومنتصرون ومتكسبون، والمغلوب الوحيد بينهم هو الشعب العراق النائم عن حقوقه التي تناهبها وتقاسمها المتعاركون.
- آخر تحديث :
التعليقات