بعد هلاك سعيد وفرار سعد تلفت باقي السعداء يمنى ويسرى حيث النار تلتهم السفينة المترنحة بحثاً عن الخلاص، عرفوا وقتها فقط قيمة وحدات زمنية ظنوها نظرية فقط من قبيل الميلي ثانية وتأكدوا أن مجرد أجزاء منها تبقى لهم قبل تفعيل اختيار أحد القاربين المتاحين قارب المعارضة أم قارب النظام. لا وقت لدى المتسلقين الذين كانوا حتى البارحة يتمسحون عند أحذية النظام حتى لأن يجمعوا ما خف حمله وغلا ثمنه، مع ملاحظة أن أكثرية هرم النخبة والمقربين احتاطوا لهذا الأمر فجمعوا سلفاً أو حولوا بأسماء أحد أقربائهم الثمين مما غنموه خلال سنوات جهادهم الطويلة أو القصيرة. فكان الانشقاق سهلاً لم يكلفهم إلا أبسط الخسائر. على رأس هؤلاء مناف طلاس الذي ولد في بيت عادي قبل أن يعتاد و منذ سنوات الطفولة على تناول طعامه بملاعق الذهب التي خصم ثمنها من خبز الشعب السوري، وبعد أن شعر أن الأفق الغائم يهدده بالحرمان من السيجار الفخم الذي اعتاد التلذذ بطعمه ورائحته، لم يبقَ أمامه إلا إعلان انشقاقه وحث الشعب على التوحد quot;من أجل خدمة سوريةquot;، نفس سوريا التي غرف من خيرها هو وأباه من قبله الذي كوّن إمبراطورية في أوروبا بناها بعرق جبينه أيام الشباب ليلجأ إليها في شيخوخته.

مثال آخر حصل للتو وهي امرأة لا تنتمي للنخبة ولا حتى لا لقشور النخبة إلا إذا اعتبر عمل مذيعة متوسطة الموهبة يمكن أن يقود إلى الوضع في مصاف النخبة. علا عباس التي بدأت حياتها كممثلة أدوار ثانوية قادتها (على الأرجح) الرغبة في الاستقرار والراتب الثابت إلى العمل في أروقة التلفزيون. وحصلت على ما تريد، بالتأكيد ليس اعتماداً على موهبتها بل هي مفاتيح يعرف أي سوري أن من لا يملكها لن تفتح له أبواب التلفزيون السوري كموظف لا كمذيع فقط. اندفعت علا في إعلان بيان انشقاقها عن النظام متهمة إياه بالطائفية وهي أول من استغل الانتماء الطائفي مبكراً جداً للحصول على ميزات خاصة في المدينة الجامعية أيام دراستها التي لن يقصد السكن فيها بطبيعة الحال من أكرمه الله بسعة العيش. وكان من الممكن تجاهل استغلال منبت طائفي للحصول على ميزات أقل من قليلة مقارنة بما حصلت عليه بنات أخريات ينتمين لنفس الطائفة أو لطوائف أخرى اعتماداً على المال والواسطة؛ لكن حري بمن اتهم النظام بالطائفة أن يكون منزهاً عن استغلالها سابقاً ولاحقاً.

وتوالت أخبار الهاربين لتتنوع الاستجابات الشعبية بين كل من المعارضين والمؤيدين بعد انتشار أخبار المنشقين، وحظي البعض باهتمام لا يتناسب وحجمه، فالمركز العسكري أو الدبلوماسي والإعلامي الذي يحظى به المنشقون ليس مؤشراً على صدق بياناتهم. لكن مع اختلاف دوافع تلك الاستجابات حسب الولاء أو المعارضة فهي تماثلت لدى كل أطياف الشعب السوري ولم تتجاوز الترحيب أو الاستنكار أو اللامبالاة لأن تأثيرها في الواقع على مسار الثورة معدوم. وبدا أن حظ محاولات استغلال الانشقاقات لصالح الثورة أو النظام لم يكن موفقاً، فالشعب الذي نضج سياسياً في بضعة عشر شهراً لم تعد تنطلي عليه خدع تأنيب الضمير المفاجئة. فمن انشق لم يختر طريقه الجديد إلا لغايات نفعية بحتة ترميها حساباته التي رجحت انتصار الثورة، والكثيرون ممن بقوا لم يبقوا وفاء لنظام نهبوا من خيره ما استطاعوا بل حثهم الاعتقاد بأرجحية انتصار الجيش النظامي.

والشعب السوري أهم معادل في الثورة السورية يصر الجميع على مصادرة حقه في اختيار طريقه. وليس هذه الكلام تنظيراً بل واقعاً تشهده التهديدات التي تطال المناطق التي اختار أهلها عدم المشاركة في الثورة، تبدو المشاركة في الثورة إجبارية ولا يكفي التزام الحياد بل يجب أن تتلوث يدهم بالدم ليثبتوا أنهم يستحقون المعاملة بالمثل عند انتصار الثورة. وتمتلئ الشبكات الاجتماعية و بشكل أقل المنتديات الالكترونية بتهديد الثوار للمحايدين من الأقليات الدينية مباشرة أو بالإشارة. و أمام إصرار مناصري الثورة على تجاهل الأخطاء التي يرتكبها الثوار واعتبارها أخطاء فردية و الدعوة إلى إلزام الجميع بالمشاركة في الثورة، تحول المحايدون مع الوقت إلى مؤيدين، وحتى المعارضون السابقون وجد الكثير منهم أن التهديد قبل امتلاك القوة هو أول مؤشر على شكل الحرية التي يطالب بها أولئك الثواروشكل السلطة القادمة بفضلهم.

كل التعاطف الذي حمله المعارضون الصامتون لدماء سالت من بعض المعارضين العلنيين، انقلب خوفاً ولجوءاً اضطرارياً إلى خيار النظام الحالي كونه الأخف ضرراً، فأخطاء بعض المحسوبين عليه لم تصل يوماً على الأقل في الألفية الجديدة إذا أصر البعض على دمج حقبتي حكم الأسدين واعتبارهما حقبة واحدة يسأل فيها الابن عن أفعاله وأفعال أبيه معاً إلى التهديد بالسجن والقتل في حال عدم المشاركة في مظاهرة مؤيدة.

والعالم الذي أصر طوال الوقت على التركيز على جرائم بعض المحسوبين على النظام تذكر مؤخراً أن الثوار ليسوا ملائكة وإن انعدام وجود قيادة موحدة لا يبرر الأخطاء الكثيرة بحق المدنيين والتي وقعوا بها، وتضمنت بعض أشهر الوسائل الإعلامية شهادات موثقة لبعض تلك الجرائم مثل مجلة دير شبيغل الألمانية و التلفزيون الأمريكي إم إن إن والتلفزيون الألماني زيد دي إف، جرائم طالت مدنيين كل ذنبهم أنهم ليسوا مسلمين سنّة أو رفضوا المشاركة في الثورة. مع ملاحظة أن الإعلام العالمي دأب طوال الفترة الماضية على تسليط الضوء على جرائم الجيش النظامي قبل أن يلتفت لواجبه المهني المعني بكشف الجانب الآخر من الحقيقية.