يتمتع اقليم كوردستان بوضع خاص منذ عام 1991 وبحكم ذاتي منذ اقرار الدستور الجديد بعد سقوط النظام السابق في عام 2003، وقد اكتسب بموجب هذا الوضع ميزات لا تتوفر لدى المكونات الكردية في البلادالمجاورة للعراق كإيران وسوريا وتركيا.... استقلال شبه تام عن المركز وثقل هام في المعادلة السياسية الوطنية اتاحت للأخوة الكرد وجودا فاعلاً في مجالات السياسة الخارجية والدفاع وغيرها..

وعلى الرغم من ذلك فان العلاقة مع المركز اتسمت طيلة السنوات الماضية بالشكوك والترقب والتوتر...
اتهامات من المركز بتفرد الاقليم في السياسة الخارجية والاقتصاد وغيرها واتهامات من الاقليم للمركز بخرق الدستور والميل نحو الدكتاتورية واستبعاد الاخوة الكرد من مفاصل الدولة وامور اخرى....

في الآونة الاخيرة، نشر موقع السيد مسعود البارزاني رئيس اقليم كوردستان كلمة له تضمنت محاور الاختلاف الرئيسية مع الحكومة المركزية في بغداد واهمها فقدان الاخوة الكرد ثقتهم بالمالكي بعد نشره لقوات الجيش في ضواحي خانقين علم ٢٠٠٨ ومحاولات استبعاد المسؤولين الكرد من الجيش العراقي وتعثر تطبيق المادة ١٤٠ من الدستور وقانون النفط والغاز... وقد تكون المحاور الباقية من حديثه معروفة لدى المتابعين للشأن العراقي ولكننا نستطيع التوقف عند جانبي الاقتصاد والسياسة الخارجية كأبرز مظاهر التباين بين الطرفين.

امر ثابت لا يختلف عليه احد من الفرقاء السياسيين: ان جوهر الدستور الذي كتب في بداية المسيرة السياسية يستند على الوحدة الوطنية وحفظ مصالح الشعب كأساس لبناء دولة العراق الحديثة.

وتعد المصاعب التي تواجه تطبيق الدستور امراً طبيعياً في حياة الامم، فالشعوب تعيش حالة حراك متعدد الاتجاهات (جغرافي، تاريخي، سياسي، ثقافي،...) يستوجب موائمة مرنة بين الدستور وحالة المجاميع البشرية التي تعيش هذا الحراك المتواصل..

والموائمة في مساراتها الطبيعية تجري في اجواء الثقة وتكمن في تظافر الجهود المختلفة في سبيل فهم المصاعب اولا والعمل بصورة جماعية على تذليلها ثانية، وهي عملية معقدة لا يمكن انجازها والنجاح بها دون الرجوع الى جوهر الدستور.

الموائمة والعمل المشترك واجواء الثقة والحرص على الوحدة الوطنية ومصالح الشعب، مفردات لم تنصهر بمجملها في ارادة الفرقاء السياسيين في العراق، وساهم تشظيها في توليد الازمات وتضخيمها....

الاقتصاد (وتحديدا النفط) امر بالغ الحساسية في حياة الدول والمجاميع البشرية وآثار الحروب التي شنت بسببه لازالت شاهدة في مواقع عدة من منطقة الشرق الاوسط....سياسة الكويت في مجال البترول اعتبرها نظام صدام مستفزة وظالمة ومبررة للحرب فجاءت كارثية على العراق والمنطقة... وحاجة الولايات المتحدة الاميركية لهذه المادة الحيوية مبررة كذلك لشن الحرب على العراق بحجة تحرير الكويت في عام 1991وما تبعها من حصار وغزو في عام 2003..... مسارات تدفق الطاقة في منطقة الخليج هي الاخرى تعتبر مناطق نفوذ للدول الكبرى والمساس بأمنها قد يدخل الترسانات النووية العالمية حالة الاستنفار..

مقولة تتردد في مجالس العشائر العراقية عندما تختل العدالة في توزيع مياه السقي بين الاراضي وتلوح في الافق بوادر تحول الاخوة الى اعداء quot; قطع الاعناق ولا قطع الارزاقquot; رددها صدام قبيل غزوه للكويت فاختزل بقولته هذه العراق الى عشيرة تنازع جيرانها الرزق.

تبادل الاتهامات وتباين المواقف بين الحكومة المركزية واقليم كوردستان اضحى شانا مألوفا في السياسة العراقية، اكثرها خطرا وواقعية ما يتعلق بالنفط. الخطورة تكمن في ما يخفيه هذا الجانب من حروب ومجابهات مسلحة او انفصال تام بين الاقليم والمركز والواقعية تتعلق بتزاحم المصالح لكيان مظلوم تاريخيا ومكبوت تحسنت على حين غرة ظروفه الاجتماعية والسياسية فاتجه نحو التميز عن مركز مشلول تتنازعه الارادات والانانيات المختلفة.
هوية الاقليم تتشكل وتتعزز يوما بعد يوم ومعها تتبلور مصالحه وتحالفاته الداخلية والخارجية. موقفه من الازمة السورية انعكاس تام لموقعه الجيوسياسي واهدافه المختلفة عن المركز.

نفطياً، يرى الاقليم في انفراده بعقد الاتفاقات مع الشركات الاجنبية حق مسنود ويفسر الدستور وفقا لمصالحه المتشكلة واهدافه الخاصة.... المادة 111 من الدستور التي تنص على (ان النفط والغاز هما ملك الشعب) في بلد يتسم برخاوة المركز وترهل اطرافه تعد مفتاحا لجدل يمارسه الاقليم مع المركز من موقع القوة ويرسم مساره حسب مصالحه المتصاعدة ونهايته الآيلة (ربما) الى الانفصال...!!!!!

في تصريح سابق لبرهم صالح نشرته جريدة البيان الاماراتية (صباح قدوري- الحوار المتمدن عدد 1727 ) ورد ان quot; عوائد النفط حيوية لاقتصاد العراق الذي يضم ثالث أكبر احتياطيات من النفط الخام في العالم وان طريقة توزيع تلك العوائد في البلاد هي التي ستحدد هل ستبقى البلاد موحدة او تتفكك تحت وطأة العنفquot;.

المشكلة في جوهرها لا تتعلق في طريقة توزيع العوائد بقدر تعلقها بمن يملك مفاتيح التوزيع؟ وطبيعة الصراع الحالي والقادم تدور حول الاجابة عن هذا السؤال الحيوي.... من؟؟؟
وفي جميع الاحوال فان البلد رهينة بين قدرين، اضعفهما الترهل والتشتت والارتماء في شباك الارادات الاقليمية واكثرهما بأسا التفكك والعنف، وما تشهده الساحة العراقية من توتر بين الاقليم والمركز ما هو الا ترجمة لهذا التوازن المتأرجح والقاتم.

استقلال الاقليم في ادارة الموارد البترولية ليس حديث العهد حيث تشير المصادر الى توقيع عقود تجاوز عددها الاربعين 40 منذ سنوات مع جهات خارجية بعيدا عن مشورة او مشاركة المركز.... وفي اطار اللعب في الوقت الضائع، يقاطع المركز الشركات الاجنبية المتعاونة مع الاقليم ويفرض عليها عقوبات لا ترقى الى مستوى الفوائد التي تجنيها تلك الشركات مع الاقليم....

غليان المصالح المتقاطعة يجري على قدم وساق في عمق الوعاء الوطني العراقي وعلى السطح تطفو مظاهر هذا الغليان، تارة بشكل تحالفات داخلية واقليمية وتارة اخرى بهيئة مواقف خارقة للسيادة الوطنية كالموقف من الازمة السورية وزيارة اوغلو الى المنطقة الشمالية ومدينة كركوك.....
عقود النفط وتصديره عبر الاراضي التركية، تحالفات اقليمية ومواقف تصل حد وضع قوات البيشمركة في موقع المواجهة مع قوات المركز....

في بيانه الاخير، اكد السيد مسعود البارزاني على اهمية قوات البيشمركة كجزء من المنظومة الدفاعية العراقية، وقد يكون هذا صحيحا في النوايا ولكننا نشهد في الحشود الاخيرة في قرية فيش خابور الحدودية جزءا متقاطعا مع المنظومة الدفاعية العراقية...

العلاقة بين المركز والاقليم اقرب الى التنافر منه الى التجاذب... ومؤشرات عدة تدل على تماثل حالة التنافر مع الواقع الاستقلالي الذي ينزع اليه الاقليم بالمجاهرة او بدونها...

صراع المركز مع الاقليم ليس متكافئا ابدا، والحكمة في ادارة هذا الصراع تكمن في معرفة نوايا كل طرف والامكانات المتاحة لخدمة تلك النوايا والمسافة التي تبعدها عن المشروع الوطني العراقي....
الحكمة تقتضي أيضا اعتراف المركز بسوء ادارة الازمة وضعف ادائه امام اقليم موحد الارادة ثابت العزم وماض نحو اهدافه بخطى واثقة....

السؤال الذي يحكم هذه الازمة لا يدور ابداً حول : كيف يدير المركز علاقته مع الاقليم خدمة للوحدة الوطنية؟ بل كيف يعزز المركز من عوامل قوته الذاتية ويتحررمن الانانيات والارادات الخارجية ويخدم محيطه القريب (شعبه المحروم من ابسط مقومات الحياة كالماء والكهرباء والامن!!!!) ليلتفت فيما بعد الى محيطاته الابعد ثم الابعد....
الفساد وسوء ادارة المركز للحياة العامة وخسارته لتأييد الشعب ستقود حتماً الى خسارة الاقليم كجزء من اللحمة العراقية وتعيد الى الاذهان (مع الفارق بنوع الحكم) مقولة عائشة ام ابي عبد الله الصغير أخر ملوك غرناطة بعد الخسارة الكبرى في الاندلس quot;ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً... لم تحافظ عليه مثل الرجالquot;.

[email protected]