تمرد الكرد ماضياً، وحاضراً، ولا نستبعده مستقبلاً، ليس حباً بالنزعة، بل رضوخاً لذات نازعة إلى الحرية خلقاً، وتلبية لمدارك تتهافت على التعامل الحضاري الإنساني، شعب والتمرد منطقهم، ضد الطغاة والمستبدين، والأنظمة الشمولية، رافضين تقبل ثقافة الإستبداد وألغاء الآخر، تمردوا على حكام مشوهين أفسدوا المجتمعات وخلقوا كل الموبقات والأبوبئة بين الشعوب في شرقنا، شارك الكرد في كل الإنتفاضات والثورات التي تبنت مفاهيم الحرية وتحرير الإنسان. مفاهيمهم وثقافة السلطات الدكتاتورية طرفي نقيض. شعب ينزعون إلى العيش عزيزاً، يرفضون ثقافة التمييز، والإحتلال الإستيطاني لجغرافيتهم، يتمردون ضد تجريد الشعوب من حقوقهم في أوطانهم، يتمردون للحفاظ على خصوصيات الثقافة القومية، وضد محاولات الأنظمة الشمولية من زرع ثقافة مشوهة بينهم، وصهر الشعب الكردي في الشعوب الأخرى، يتمردون ضد الإفقار والإذلال، إن كان هذا التمرد صفة سلبية لدى الحكومات الدكتاتورية، إلا أنه مركز عز وإجلال لدى الشعوب.

صفة التمرد نشرتها السلاطين العثمانيين والصفويين، منذ عقود بعيدة على الثورات وإنتفاضات الكرد، التي تهافتت على الحرية، وطالبت بالإستقلال من نير الإستبداد المتفاقم على شعوب المنطقة بكليتها، تلقفها الدكتاتوريين الذين أستحكموا بالدول المستعمرة لكردستان بالمطلق، منهم شاه ايران، ومن بعده أئمة ولاية الفقيه، وزعماء الدولة الطورانية، منذ أتاتورك حتى أردوغان، الذي أعاد أمجاد سابقيه بهذه المقولة العنصرية quot; المتمردون الكرد quot; ويدمغها بمقولة نابعة من الثقافة التي تلقفها من مدارس الطورانية القديمة والمبنية على ألغاء الكرد وجوداً، ويكثفها بتحذير مع تهديد لأي حراك كردي يحاول المطالبة بالحكم الذاتي أو الفيدرالية، وقد كررها على مدى عقود زعماء البعث أمثال عفلق وتلاميذه بدءً من صدام إلى الأسدين في سوريا، وصف كل هؤلاء الحكام المستبدين، الكرد في كل مناطق جغرافيتهم، ولم تختلف حكومات الدول الأربع يوماً بين بعضها على عمليات ألغاء الوجود الكردي، وطمس قضيتهم والوقوف في وجه نزعتهم إلى الحرية، أوالعيش في وطن ينعم بالديمقراطية، أو بناء دولة وطنية مبنية على مفاهيم الحضارة الإنسانية، وتكون حكمة التعامل بين شعوبها العدل والمساواة في الحقوق والواجبات.

غيرت الحكومة التركية لهجتها حول الثورة السورية، في أحلك واصعب فتراتها، لتبرز مصالح ذاتية انانية. خلقت القضية الكردية، تبحثها، وعلى مستويات دبلوماسية عالية، لتحيد حراكهم عن مسار الثورة، وتخلق من ورائها صراع بين الشعب الكردي والعربي السوري، تجر حكومة أقليم كردستان العراق إلى القضية من أوسع أبوابها، ولا نستبعد اشراك دول الجوار في المباحثات حول القضية الكردية، متناسين الثورة السورية وآفاقها ومتطلباتها، متناسين الآلاف من الشهداء، متناسين نظام الأسد الآيل إلى الزوال، وعمليات إستماتة الهلال الشيعي لأحيائه، بكل ثقله، وتتغاضى على تدخلات الحكومة العراقية من طرف الهلال الشيعي في الثورة السورية!.

غابت قضية الثورة السورية كليا من مدارك الدبلوماسية التركية فجأة، أصبحت قضية اللاجئين، والجيش الحر، ومواجهة السلطة الشمولية السورية من اختصاص الدبلوماسيين من الدرجة الثانية، ظهرت رحلات دبلوماسية متتابعة بين أنقرة و أربيل في الاسبوعين الأخيرين، من قبل السياسيين الأتراك، الذين كانوا قبل سنوات يطلقون تصريحات نارية بحق قادة حكومة أربيل، ولم يتنازلوا حتى بالجلوس معهم على طاولة التشاور حول مستقبل العراق حينها! quot; تنديداتهم حينها كانت اشرس واقسى مما تطلقها الآن بحق الحراك الكردي في سوريا quot;.

ما أغرب الإنسان! في عصر الحضارة والإنسانية هذه لا تزال هناك حكومات و أنظمة وبشر لا ينتابه الخجل ولا يهتز في كيانهم حاسة من حواس الإنسان السوي حضارياً، يقفون معارضين ضد نزعة الحرية بشكل سافر ومباشر، ينددون برغبة الشعوب المطالبة بالعيش معاً أحراراً في وطن واحد، يرفضون المساوات والعدالة بجهارة فيها كل الصفاقات اللإنسانية. هل بعد هذا يمكن أن يكون هناك حراك آخر يمكن أن يسلكه الكرد غير التمرد في وجه الحكومات العنصرية؟! الثورات ستدوم مادامت أمثال هذه الأنظمة قائمة، ومادامت هناك تيارات سياسية إنتهازية تساند هذه الثقافة الموبوءة.

خلقت الحوارات التي جالت الأروقة السياسية والدبلوماسية التركية، حول الثورة السورية، تنافر وصراعات بين تيارات المعارضة الخارجية، وأحدثت شرخ واسع بين الكتلة الكردية وبعض القوى العروبية. كما ساهمت بسياستها تلك على انزياح أطراف من المعارضة في الثورة عن ماهيتها الإنسانية الحضارية إلى صراع سني - شيعي، تحركت الحكومة التركية كثيراً من أجل السيادة في الصراع، أستفادت السلطة السورية الشمولية ومن ورائها الهلال الشيعي من تسخير هذا الحراك، حفزوا خططهم الشمولية من وراء هذه المصالح الذاتية الأنانية.

فرزت الحكومة التركية خلال مسيرة الثورة السورية اطراف المعارضة حسب رغباتها الذاتية، وضعت القضية الكردية على رأس أجنداتها، سيطرت دبلوماسيتها على قاعات معظم المؤتمرات التي احتضنتها، لتملي غاياتها الخاصة حول مستقبل المنطقة الكردية ما بعد سقوط النظام السوري، فكانت أملاءاتها واضحة وصريحة على أطراف المعارضة بكليتها، وسخرت لهذه المهمة التيار الإسلامي السياسي، وبعض الشخصيات العروبية في المعارضة، لم تكتفي بذلك، فتكالبت، ورمت بكل ثقلها السياسي والدبلوماسي على الساحة، لتحقيق تلك الأجندات، دخلت في الصراع بكليتها، وبدون مواربة، وبشكل علني ومباشر ضد الكرد ونزعتهم إلى الحرية، حتى في وطن واحد، ولو كانت خارج تركيا ! وهم بهذا لا زالوا يطبقون مقولة أحد زعماء الطورانية قبل عقود، عندما قال: quot; سنكون ضد إقامة دولة كردية حتى ولو كانت على سطح المريخ quot; فهل بعد هذا التصريح يمكن الركون إلى أمثال هذه الأنظمة بدون تمرد!.

حركت الحكومة التركية لهذه الغاية أطراف من المعارضة السورية في الخارج، ودفعت ببعض المراكز الإعلامية العربية للتكتيم على فعاليات المناطق الكردية، وحراك التنسيقيات الكرد ومشاركتهم في الثورة، علماً إن الحراك الكردي بكليته كان الأوعى في التعامل مع مفاهيم الثورة، أبقتها ثورة سلمية، لكن الحكومة التركية كثيراً ما نفثت دعاية مغرضة ضد الكرد، عن طريق التيارات المناوئة للقضية الكردية، والراضخة لإملاءاتها، في الوقت الذي لا يمكن لأية قوة معارضة نفي أولوية الحراك الكردي في مواجهة النظام البعثي ndash; الأسدي، و قد كان المجلس الوطني الكردستاني ndash; سوريا أول حراك وطني سوري يرفع شعار اسقاط النظام بشكل صريح وعلني ومنذ عام 2006 في مؤتمر بروكسل، وتبنتها معظم القوى الكردية في الخارج، وفي الداخل لم يكن يخفون هذا التوجه، في الوقت الذي كان المعارضين العرب يرفعون شعار تغيير أو اصلاح السلطة، وليس اسقاط النظام.

تمسكت القوى الكردية في كل أدبياتها بمفاهيم الإنتماء إلى الوطن، وبناء نظام يؤمن للجميع الحرية والمساواة، ولم يكن مطالبة المجلس الوطني الكردستاني ndash; سوريا بالنظام الفيدرالي لسوريا القادمة سوى إيمان بوحدة الوطن وتماسكه، من منطق الرغبة الصادقة وليس الإرضاخ، وهذا المنطق السياسي الصحيح هو الذي هز مراكز اللاشعور في الشخصيات المتشبعة بالثقافة الطورانية والعروبية، لذلك سخروا ومنذ الأيام الأولى من الثورة السورية كل طاقاتهم لعزل الحراك الكردي وتهميشه، وقد كان للمجلس الوطني الكردستاني - سوريا موقف واضح وصريح منذ أول محادثات مع بعض الأطراف المعارضة العربية الراضخة لأملاءات السلطة الطوؤرانية وأجنداتها، لذلك لم تتقدم بالأشتراك في المجلس الوطني السوري، وبقي أحد الفصائل القوية في المعارضة السورية ضمن الأروقة الدبلوماسية العالمية وخاصة الأمريكية، والمطالبة بأسقاط النظام بكليته في مقدمة كل أجنداتها، وإزالة القوى الإنتهازية التي شاركت السلطة الشمولية في عهود ماضية والذين هم الآن قسم من المعارضة، وهؤلاء هم جميعاً متفقون على هدم العلاقات الإنسانية في شرقنا، لا يستطيع هؤلاء المشاركة في الثورات، وسوف لن يساعدوا على بناء أوطان حرة متحدة، بل سيكونون حواجز مانعة لها، سيسخرون لذلك كل الأدوات السياسية والدبلوماسية وسوف لن يتوانوا من استعمال القوة العسكرية أيضا.

نرى الآن كيف بدأت تركيا تحرك قواتها العسكرية ضد الثوار الكرد المنتفضون ضد السلطة الأسدية، في الوقت التي لم تحرك فيها الحكومة الأردوغانية جندياً واحداً منذ بدء الثورة السورية رغم أن عدد الشهداء تجاوزوا 20 ألف، ولم تحركها يوم قتلت السلطة السورية جنود اتراك في أراضيهم، ولم تحرك سقوط الطائرة الحربية التركية سوى ألسنة سياسية مهترئة، ولم نجد لقادتها العسكريين اصحاب الإنقلابات المتكررة والعنجهية الطورانية أي ظهور على الساحة!.
خارج كل هذا الحديث نؤمن أن المنطق الإنساني لا يمكن أن يرفض تعايش 40 مليون كردي مع غيره من شعوب المنطقة بحرية، وعدل، ومساواة، في وطن مشترك، أو أوطان متجاورة.


الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]