لا يبدو لمصطلح العدالة مكان في الثورة السورية رغم أن سبب اشتعالها الأول هو رغبة الشعب في التحرر من عقود الظلم والذل الطويلة. و في حين صدقها الكثيرون في البداية، فوجئوا بها تضطر في أحيان كثيرة إلى ظلم آخرين لا ناقة لهم ولا جمل، كل ذنبهم هو عدم رغبتهم بالمشاركة في الثورة. الامثلة أكثر من أن تحصر و منها التهديد بإحراق أي محل يفتح في اليوم الذي قرر فيه إضراب المحلات في دمشق (إضراب الكرامة) في أواخر أيار الماضي. وقتها انتقل المواطنون المساكين الذين لا يرجون إلا سلامتهم إلى معضلة وقعوا فيها رغماً عنهم، فإذا تابعوا أعمالهم وفتحوا محلاتهم يهددهم الثوار بتفجير محلاتهم وإذا أغلقوا محلاتهم بداعي الإضراب والمشاركة يتهددهم أزلام النظام، وبجميع الأحوال تتوقف مواردهم وهي الشحيحة منذ شهور.

في حين تبادل كل من الجيش النظامي والجيش الحر الاتهامات بالجرائم لشهور عديدة، داعمين هذه الاتهامات بالصور والأفلام، فإن الكثير من الحياديين وعلى رأسهم الطوائف الصغيرة التي يتكون منها النسيج السوري الثري فضلت المراقبة اعتقاداً منها أن كل المسألة هي صراع على المنصب الأعلى لاستعادة دور الغالبية السنية المفقود لعقود حيث اتُهِمت الطائفة العلوية التي لا تملك خُمس الحجم الديموغرافي السني بالاستيلاء عليه. مع ملاحظة أن باقي الطوائف لم تكن مدللة بشكل خاص لدى النظام، بل عانى الكثير من أفرادها من مختلف أشكال الظلم السياسي والاجتماعي أسوة بالغالبية الغالبة من أهل سورية، حتى أن ظلمه لم يوفر أبناء طائفته نفسها الذين دعوا للتغريد خارج سربه أو لحناً يخالف ألحانه.

و في حين أن حقد الأكثرية على عقود التهميش الطويلة مفهوماً والرغبة المحمومة لدى البعض والمعتدلة لدى البعض الآخر بالسعي وراء حرية لاحت في الأفق مبررة، لكن من غير المنطقي أن تندفع الأقليات تحديداً بنفس الزخم للمشاركة في العمل ضد نظام ليست واثقة أن بديله أفضل. و بالأصل المشاركة في الثورة أو اختيار الحياد يفترض به خيار شخصي يقرره المرء بناء على مصالحه ورؤاه. وإذا كان من المفهوم تصاعد صيحات الاستنكار لخطأ (أو جريمة) قام بها جندي أو ضابط نظامي فإن هذه الصيحات ليس لها أن تصمت فجأة إذا كان الفاعل أحد عناصر الجيش الحر فتهمس مختلقة الأعذار له. وهذه فيديوهات تملأ الشبكة العنكبوتية وتصل أبعد الآفاق تحوي وثائق تدين الجميع، وتؤكد أنه لا يوجد ملاك لا في مناصري الثورة السورية ولا في مناهضيها.

حقيقة يعرفها كل من عاش تحت سياطها، ممارسات الجيش الحر ليست أقل وحشية من ممارسات الجيش النظامي وكل الذي ردعهم هو قلة السلاح، و فيما يتبادل الطرفان الاتهامات ويدرسان حصيلة آخر صدام، يحرم السوري العادي من أبسط ما يحتاجه البشر. والجيش الحر الذي يخطط للهجوم والانسحابات التكتيكية ويحرر بعض المناطق من سوريا ليسترجعها منه الجيش السوري بعد ذلك، تبدو خسائر المدنيين آخر همه وإلا مالذي سيفيده إعلان منطقة محررة يهاجمها الجيش النظامي بكل أسلحته ليحررها بدوره وقد أصبحت خراباً تملأ جثث القتلى المدنيين أزقتها، ليهرب الجيش الحر ويعاود الكرة في منطقة أخرى وبنفس النتائج تقريباً.

وماذا استفاد الشعب المحروم من كل شيء والذي يهدده الموت كل لحظة من تصاعد مدى الإدانة العالمية لممارسات الجيش السوري كرد على مبادرات الجيش الحر الذي دأب على تحرير حمص وإدلب سابقاً، وها هي حلب تدفع ثمن إعلان تحريرها.

تتفاقم مأساة الحياديين حيث تحاصرهم المسائلة التي يفترض بها أخلاقية من الطرفين: الجيش الحر يطالبهم بالحراك وعلى الأقل بدعم وإيواء العائلات النازحة بفضل مغامراته، والجيش النظامي يطالبهم بمقاطعة الخونة الذين كانوا السبب في قتل مدنيين لا ذنب لهم. وإذا كان من الممكن العيش تحت ظل هذه المشكلة باختيار أهون الضررين وهو المساندة الشكلية اللفظية لأحد الطرفين، فإن تهديدات كل من الطرفين للحياديين عند الانتصار تجاوزت التضمين والإشارة إلى الإعلان الواضح: انتظروا، فغداً سنتفرغ لكم. وهل سيقتصر العقاب القادم على لوم من قبيل الاستتابة الاسلامية أو الاعتراف وطلب الغفران المسيحي؟ أم سيتجاوزه إلى النفي والسجن وربما الإعدام؟ يبقى السؤال الذي ترتعش منه الأقليات المحايدة المرغمة على مناصرة أحد متحاربين يتوعدها كل منهما بما ستراه في حال انتصاره.

الاستقطاب الذي يجر إليه السوريون اليوم يبدو مصيراً محتوماً، وعبثاً يحاول العاقلون تجنبه. وكما كان الحال أيام التلفزيون الحكومي حيث لا صوت فيه إلا للحكومة لتقول للشعب ما تريد باسم الشعب، لا تبدو وسائل الإعلام رغم كثرتها متاحة للحياديين ليصرخوا أن انتصار أي الطرفين هو آخر ما يهمهم فما يريدونه انتهاء التعارك والعودة للحياة، وفيما التلفزيون الحكومي يتحدث عن الولاء المطلق وكأنهم يعيش خارج الزمان، تصر الشبكات الاجتماعية التي تتحدث باسم المعارضة والقنوات المناصرة لها على الكلام عن إعلان مناطق محررة، وعند رد النظام لاسترداد هذه المناطق يصبح قتل المدنيين جريمة!

لا مكان للسوري كسوري في الذهن الرسمي أو المعارض، بل كل ما يشير إليه رقم لتصنيفه كمعارض أو موالي، ويعلو نحيب الإعلام الرسمي أو المعارض فقط في حال اغتيال هذا الإنسان، مع ملاحظة قد لا يتقبلها المعارضون لكن لا يستطيع أحد إنكارها: الحكومة ترضى بالصمت كدليل رضا والمعارضة تعتبر الصمت دليل خيانة ولا يكفيها إلا المشاركة الفعالة، لا يكفي أن يكون الملايين أمثالي معارضين صامتين للنظام لم يصدف في حياتهم كتابة كلمة واحدة تتملق أي ركن منه، بل يجب أن نتكلم عن شيطانية النظام وملائكية الجيش الحر حتى ندخل جنة سورية المحررة ولا يحكم على أمثالنا بالجحيم الأبدي.