مغري جدًا هذه الأيام أن تقارن بين مصر وتركيا، ورغم التأكيد على كل الفروقات الجوهرية بين البلدين، إلا ان المراقب لتاريخ منطقتنا يُدرك أن هذين البلدين يتشابهان في الكثير. وعطفًا على ذلك تستطيع أن تلحظ بنوع من الدهشة الطازجة التشابهات الظاهرة بين مراحل تاريخ هذين البلدين.

المرحلة الحالية في مصر تُشابه كثيرًا الثمانينات الميلادية في تركيا: كاضطراب سياسي ينتهي بانقلاب عسكري صريح في تركيا عام 1980م، واقتصاد يتعرض لأزمات تضخم مستمرة، ومجموع صادرات لا يتجاوز الثلاث مليارات دولار، تزامناً مع استمرار الصراع بين قوى اليسار الاشتراكي واليمين القومي. وفي مصر اندلعت ثورة شعبية رافقها انقلاب عسكري غير مباشر، واقتصاد ضعيف مهلهل يعتمد على مساعدات واحسان الخارج بشدة، بالإضافة إلى أحزاب علمانية ويسارية وقومية مشتتة مقابل قوى إسلامية منظمة وفاعلة. وفوق هذا احساس شعبي باحتقان كل شيء في البلد، وأن الوجهة العامة له غير واضحة.
ما مناسبة هذا الحديث الآن؟

إنه بالطبع فوز الإخوان المسلمين بالرئاسة المصرية. إنه الفوز الكبير الذي يجسّد الصعود المتتالي لقوى الإسلام السياسي نحو سدّة الحكم في البلدان العربية في هذه المرحلة. وعليك أن تنتبه هنا إلى أن الإخوان المسلمين وغيرهم بدؤوا منذ سنوات باستخدام مصطلحات كانت غائبة عنهم مثل: ديمقراطية،دولة مدنية، مجتمع مدني، سيادة القانون، انفتاح اقتصادي...إلخ لسببين رئيسين:
1-القرار الأميركي ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 والذي طبخ على مهل في مراكز الأبحاث السياسية والإستخباراتية لتغيير وجه منطقتنا؛ بحيث يتم دمج الإسلام السياسي بكل فروعه الإخوانية والسلفية وغيرها في العالم الحديث. لقد وصل الأميركيون للإستنتاج التالي: عزلة المنطقة العربية عن العولمة الإقتصادية، والأهم من ذلك عن عملية نشر الديمقراطية واحلالها محل الديكتاتوريات في العالم الثالث والتي بدأت بشكل حثيث ما بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، كانت سبباً (أي العزلة) في جعل منطقتنا مرتعاً للتيارات الجهادية المتصادمة مع المصالح والقيم الأميركية. يريد الاميركان أن تَلمس عولمتهم كل العالم، فإما أن تكون جزءًا منها أو أنك الرجل السيء ldquo;BAD GUYrdquo; الذي يتسبب بالمشاكل نتيجة عزلته وتقوقعه على الذات ورفضه للإنغماس في العولمة الأميركية. لقد فهم الإخوان جيدًا نية التغيير الأميركية، وهم يقيسون خطهم واستراتيجياتهم في أحيان كثيرة عليها.

2-نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية التركي ذي الجذور الإسلامية، تنموياً وإقتصادياً، والنشاط الكبير الذي انتهجته الدبلوماسية التركية ودخولها على خط المشاركة في صنع وإدارة الأحداث في منطقتنا، بالإضافة إلى الصلات الوثيقة التي نسجتها إدارة حزب العدالة والتنمية التركي مع غالبية الحركات الإسلامية العربية مما ترتب عليه قيام الأخيرة بالكثير من المراجعات الفكرية والسياسية.

هنا يدخل الشخص الذي أريد التحدث عنه إلى المشهد التاريخي، تورغوت أوزال: رئيس وزاء تركيا بعد انقلاب 1980 حتى عام 1989، ثم رئيس البلاد حتى وفاته في المنصب عام 1993.

تورغوت أوزال المتدين الذي استلم بلدا محكوماً من قبل طبقة عسكرية أتاتوركية اعتقدت دوماً أنها تعرف الأفضل له، وطبقة مدنية بيروقراطية ثقيلة تقاوم التغيير، أضف إليها عزلة دبلوماسية على الصعيد الخارجي، وفوضى داخلية وصلت إلى حافة الحرب الأهلية في السبعينات. أشرف على تطبيق سياسات لم تهدف فقط إلى تغيير وضع البلد مثل الإنفتاح الإقتصادي المدروس وجذب الإستثمارات الخارجية وتنويع صادرات تركيا...الخ بل قام بتنشيط السياسة التركية الخارجية وسعيه المحموم لدور تركي أكبر في محيطها الأقليمي، وجهوده المستميتة لتقليل نفوذ الجيش وتقوية الديمقراطية التركية والمجتمع المدني، كل هذه السياسات أدت إلى لتغيير مفصلي في النفسية التركية، حيث أضحى الأتراك أكثر ثقة بأنفسهم ومن مكانهم في العالم. وهنا يجب أن أشير إلى فترة وجود تورغوت أوزال في الحياة السياسية التركية كانت انتقالية أي أن آثار ما فعله لم تظهر كاملة إلا بعد خروجه من المشهد التركي بفترة طويلة. وأجازف بالقول أن كثيرًا من نجاحات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وزملائه في حزب العدالة والتنمية الإسلامي لم تكن تحقق دون أن تمر تركيا بالنقلة التي أحدثها تورغوت أوزال وتغييره لدفة التاريخ في ذلك البلد، من دولة علمانية متطرفة سلطوية و فقيرة ومتقوقعة على ذاتها، إلى جمهورية علمانية متصالحة مع الإسلام، مزدهرة إقتصاديا وصاحبة نفوذ وكلمة في منطقتنا.

ما أريد قوله أن مصر بحاجة الآن لتورغوت اوزال مصري يضعها على سكة الأمان خلال المرحلة الانتقالية الحالية، ولا يبدو لنا أن الرئيس محمد مرسي-لأسباب متعددة- قادراً على لعب مثل هذا الدور. لكن هل يستطيع الإخوان المسلمين وهم الحركة السياسية الأكثر حيوية وجماهيرية أن يقدموا مثل هذا الرجل؟ يبقى الرهان على تطلع المصريين لمستقبل أفضل لبلدهم وعلى ضغوطات المرحلة الحالية، والتي ستدفع بلا شك بشخصية من نمط اوزال للواجهة في بلاد وادي النيل.