في المراحل الأولى من فجر الوعي البشري لم يكن الإنسان الأول قادراً على التفرقة بين أحلامه وتخيلاته وبين الواقع العيني، فكانت الرؤى تختلط لديه بين هذه وتلك، وتدريجياً مع نمو ملكاته العقلية بدأ في التفرقة بين الرؤى التي تساندها ملامسته المادية لها في عالم الواقع وبين الخيالات غير المحسوسة، ورغم التطور الهائل لمقدرة العقل البشري، إلا أن الإنسان في الحقيقة مازال لا يرى الواقع رؤية مباشرة وموضوعية صرفة، وإنما يراه وفق قوالب المفاهيم المتراكمة لديه، سواء تلك التي استقاها من خبراته الحياتية السابقة، أو التي تم استزراعها في عقله عبر الأساطير والأفكار المفارقة للواقع، والتي لجأ الإنسان إليها على مر العصور ليملأ بها ثغرات معرفته، أو الأفكار التي يميل إليها بناء على عوامل عديدة منها خياراته الشخصية، فقط العلوم الطبيعية تمكنت من النجاة من هذه العوينات البشرية غير الشفافة التي يطل بها على العالم، وقد تحقق ذلك بفضل القواعد المنهجية العلمية الصارمة التي تفصل في هذه العلوم فصلاً تاماً بين الذات والموضوع، لتبقى العلوم الإنسانية حتى الآن عاجزة عن التخلص التام والنهائي من الأفكار المسبقة والذاتية.
يصح ما سبق على البشر عموماً مهما بلغت درجة وعيهم وتحضرهم، لكن نسبة المكون الذاتي في الرؤى كما تختلف من مجال لآخر، فإنها أيضاً تختلف من فرد وشعب لآخر، وفق درجة التحضر والظروف المادية والأدبية للشعوب، فإذا ما كانت نسبة المكون الذاتي ضئيلة، أي مقبولة من حيث درجة انحرافها بالصورة النهائية المكونة في الذهن لحقائق الواقع، فإننا نطلق على الفرد أو الشعب هنا لقب quot;عقلانيquot; أو quot;واقعيquot;، وقد نطلق أيضاً لقب quot;معاصرquot;، إذا ما كان المكون المختزن من الصور الماضوية والمؤثر في تقييمه للواقع المعاصر في حده الأدنى، أما إذا طغى المكون الماضوي على ملامح الحاضر العينية في ذهن فرد أو شعب، فإننا نكون أمام حالة مرضية كتلك التي سوف نناقشها في هذه السطور.
لا تحتاج منطقة الشرق الأوسط أو الشرق الكبير في الحقيقة إلى مجرد عملية تنوير، فأي تنوير يمكن أن يجدي أو يتم لعقلية هذه الشعوب وسط غابات الخرافات والغيبيات الكثيفة السوداء التي لا تخترقها أشعة الشمس، ومع كل صخور الدوجما الدينية والسياسية التي تعترض سريان نهر الحضارة، وتسد علينا كل الطرق والمنافذ؟. . تحتاج المنطقة بنظمها وعقولها وثقافاتها إلى عملية كنس وتطهير شامل، أو بالأصح لما قاله نزار قباني: quot;كن يا حزيران انفجاراً في جماجمنا القديمةquot;.
في هذه الحالة من التكلس وانسداد الطرق في الشرق مقابل الانفتاح الحر في العالم الغربي، من المنطقي والمتوقع من الثقافة الغربية المبدعة التي كانت قد أنتجت لنا الماركسية مثلاً أن تراجع نفسها بعد ثبوت فشلها العملي وليس فقط خطاياها النظرية القاتلة، كما هو منطقي ومتوقع أيضاً من شعوب الشرق المتجمدة والعاجزة إلا عن النقل الآلي، أن تظل وحدها متمسكة بمقولات الماركسية المقددة، لتضيفها لركام أفكارها وثوابتها وأيديولوجياتها الدينية والقومية المتحفية، ليزداد ثقل الأحجار على ظهور الشرق المبتلى بالعقم وكهنة الماضي بمختلف صنوفه، فيما ينطلق الغرب وكل من لحق به من شعوب شرق وجنوب شرق آسيا إلى آفاق لانهائية، كانت أحدث محطاتها الوصول إلى سطح المريخ.
يعيش اليساريون الشرقيون في وهم صراع الطبقات، والمتأسلمون في خيالات صراع الكفر والإيمان، لأن كليهما يعيش أسير كهوف الماضي الذي اندثر، لتكون الكراهية للآخر وتكلس الدوجما أهم ما يجمع بين النقيضين، فأين هي الآن الطبقات المغلقة المتصارعة، وأين هو بروليتاري القرن التاسع عشر الذي تحدث عنه ماركس، ذلك العامل غير الماهر الذي يمتص الرأسمالي الطفيلي دمه، ألم يصل يساريونا الكرام إلى القرن العشرين والواحد والعشرين، حيث عصر ما بعد الصناعة وعصر المعلومات ثم عصر تكنولوجيا المعرفة، ليروا الميكنة والآلية التي حلت محل من يعرفونه بالعامل غير الماهر، وحملت عنه الشقاء القديم في مصانع المراحل الأولى من عصر الصناعة التي تدور بالبخار، ليحل محله العامل المدرب المؤهل ذو المعطف الأبيض أو الأزرق، والذي يقف أمام أجهزة إلكترونية كتلك التي كنا نراها في أفلام الخيال العملي؟!
ألم يصلهم أن الرأسمالية تعتمد على الاستهلاك، ذلك الذي يتوقف على قدرة الناس على الشراء، بما يؤدي للارتباط العضوي بين مكاسب صاحب رأس المال وبين رفاهية العامة، وكيف تكون quot;الرأسمالية متوحشةquot; كما يلذ لهم القول، في ظل هذا الارتباط المصيري بين الطرفين، وإذا كان الرأسمالي كما تصور لنا أوهامنا يُفْقِرُ الشعوب لكي يغتني، فهل سيعمد هو لاستهلاك منتجاته بنفسه، كما يفعل بائع الترمس على كورنيش الإسكندرية بعد انتهاء موسم الاصطياف؟!
وفقاً لنظرية صراع الطبقات تدعو الماركسية الفقراء لذبح الأغنياء وسلب أموالهم ليتساوى الجميع في الفقر، والإسلام السياسي يدعوهم للتسول من الأغنياء باسم الصدقة، ليبقى الأغنياء في أعلى عليين مستريحين مسترخيين، ويظل الفقراء على أعتابهم منتظرين إيتاء الزكاة والتصدق بالصدقات، فها نحن نشهد جمهورية الإخوان في مصر وقد صارت جمهورية التسول، ورأينا رئيس جمهورية يناشد الأغنياء في نهاية خطاب تاريخي له بألا ينسوا الفقراء ويكونوا رحماء عليهم، وحدها الرأسمالية التي تستأصل الفقر فتعدم وجود فقراء في مجتمعاتها، فإن كانت الماركسية تحول الفقراء إلى مجرمين يسفكون دماء الأغنياء عبر صراع طبقي، والإسلام السياسي يحولهم لمتسولين على أعتاب الأغنياء، فإن الرأسمالية فقط هي من تحولهم لعمال مهرة وخبراء ومتخصصين وأغنياء.
بالطبع لسنا هنا بصدد جدل فلسفي واقتصادي بهدف تفنيد مقولات الماركسية، فنحن لو فعلنا الآن ذلك لكنا نقترف ذات الجرم في حق أنفسنا، ذلك الذي تهدف هذه السطور للتنبيه إليه، نعني الاستغراق في خيالات الماضي ومعاركه، فأقصى ما يمكن الآن هو الدعوة للالتفات لمعالم الحاضر وقضاياه، فالماركسية بكل ما لها وما عليها هي الآن جزء من الماضي، ولا يمكن بأي حال أن يكون لها مجال في الحاضر أو المستقبل، هذا ما تصرخ به ملامح الواقع العيني، وليس رؤية خاصة لهذا الطرف العبقري أو ذاك، ومن لا يقتنعون بهذا ويصرون على التشبث بخيالات الماضي ومفاهيمه عليهم إدراك أنهم بهذا لا يستحضرون الماضي إلى يوم الناس هذا، وإنما هم فقط يسجنون أنفسهم أو يغيبونها في كهوف ذلك الماضي الأثير على قلوبهم.
المتأسلمون الذين لا يعرفون غير الصدقة حلاً لمشكلة الفقراء يعيشون بأفكار المجتمعات البدوية، التي لا تعرف الإنتاج ولا تأهيل الناس بمعارف ومهارات تعينهم عليه، هم فقط يعرفون الريع الذي تدره قطعان الإبل والغنم، ولا حيلة لزيادة الثروة غير هذا إلا بالسلب والنهب عبر الإغارة والغزو، وقد كانت القدرة على السلب والنهب صفات تستدعي الفخر في تلك العصور الغابرة، فيما هي الآن تؤدي بصاحبها إلى ما خلف قضبان السجون!!
أليست معركة الإيمان والكفر الآن أشبه بالمعارك الدونكيخوتية التي كان يحارب فيها البطل طواحين الهواء، أليس هذا بالضبط ما فعلته طالبان في أفغانستان بهدمها تماثيل بوذا، وما يلوح به السلفيون الآن في مصر بهدم آثارها أو تغطيتها، وتحطيمهم لتماثيل في ميادين المدن، وتهديداتهم للمكتبات المسيحية التي تبيع الأيقونات ولمحلات التحف والأنتيكات. . من الآن يعبد أصناماً أو تماثيل أو رسومات حتى يستهدفونا من أجل نشر عبادة الإله الواحد، هل هذه معارك حاضر وواقع نحياه، أم هي هلوسات لخيالات تتصور الماضي ماثلاً أمام عيونها، وتعمى عن رؤية حقائق الحاضر ومشاكله ومآسيه؟!
الرأسمالية المتوحشة مثلها مثل الإمبريالية الأمريكية والعدو الصهيوني العنصري ضمن قائمة طويلة من التسميات والمصطلحات المرعبة، كلها وحوش خرافية وهمية من وحي كوابيس عقليات مأفونة لأجساد محمومة، تستأنس الحياة وسط المخاوف وعواء ضوار يطرق مسامعها طوال الليل المؤرق بالكوابيس، وتكون في ذات الوقت مبررة لها للفشل والقعود، فماذا تستطيع أن تفعل وهي المسكينة إزاء ما لا قبل لها بمواجهته من قوى شريرة عاتية؟!!
هذا العدو الصهيوني العنصري الذي ننفس فيه غريزة الكراهية، ونرعب به أطفالنا ليل نهار، من هو حقيقة العنصري، هل هم اليهود الأصلاء في الأرض، بجانب من وفدوا من أوروبا هرباً من النازية، أم نحن الذين نصر على رفضهم باعتبارهم أحفاد القردة والخنازير، رغم أن أعداداً من العرب بالمنطقة أضعافاً مضاعفة للأعداد التي وردت إلينا قد هاجرت إلى الغرب هرباً من الفقر والجهل والمرض، واستقبلها العالم الغربي - ومازال يفعل - بالترحيب والتكريم ومنحها الجنسية؟!!
هذا أيضاً ليس دفاعاً عن الصهيونية، فالحركة الصهيونية ndash; كما سبق وقلنا عن الماركسية ndash; قد انتهت وصارت جزءاً من الماضي بكل ما لها وما عليها، وأمامنا الآن شعوب تعيش في منطقتنا، وليس أمام كل الأطراف إلا البحث كيف تعيش معاً في سلام، لتتفرغ لإنجاز عملية التنمية التحديث.
أيضاً عن أي إمبريالية أمريكية وانبطاح أمامها وتبعية لها نتحدث، لقد انتهى زمن الإمبراطوريات منذ عشرات أو حتى مئات السنين، ونحن الآن في عصر جديد مختلف كل الاختلاف، ثم أين نحن من quot;التبعية المعاصرةquot; (إن صح التعبير) لليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة بل والصين لأمريكا؟!. . نحن أصلاً غير مؤهلين إلا لتبعية أفغانستان والصومال، فأتباع أمريكا والمنبطحون (حسب تعبيراتنا) أمامها شعوب منتجة مبدعة، أما نحن فلا ننتج غير الإرهاب والإرهابيين، لتوريدهم لأفغانستان والشيشان وحالياً سوريا، كما وننتج بالطبع الجوعى الذين يغرقون في البحر أمام شواطئ اليونان وإيطاليا وهم يحاولون الهرب من جحيم عروبتنا وهويتنا المتضورة جوعاً وجهلاً ومرضاً.
دعنا نتفاهم أو حتى نتقاتل على مشاكل الحاضر والمستقبل، على مشاكل ندرة المياة ومشكلة التصحر والأخطار المهددة للبيئة وارتفاع درجة حرارة الأرض والانتشار الوبائي للأمراض والانفجارات السكانية والمجاعات في المناطق الفقيرة، مئات وآلاف من مشاكل الحاضر تنتظر اللاهين المغيبين في الماضي.
ما تقصده هذه السطور ليس بالأساس مناهضة آراء وأفكار وتوجهات معينة لكي لنستبدلها بأخرى، فهذه العملية وإن كانت بالفعل ضرورية وملحة، إلا أن الأخطر الذي أردنا الإشارة إليه هو أننا نعيش أسرى الماضي وخيالاته، ثم تتفاقم الحالة بأن نصطنع معاركاً له، حتى لو ظلت مجرد معارك كلامية على صفحات الجرائد أو ميكروفونات المساجد أو القنوات الفضائية. . علينا أن نعيش الحاضر ونتأكد تماماً من أننا نراه هو، ولسنا نرى تلك الخيالات المزروعة في عقولنا، وبعدها يمكن أن نبحث ونتفق ونختلف حول أساليب معالجة ما هو بالفعل ماثل أمامنا. . دعنا نختلف فيما بيننا ولو بأشد درجات الاختلاف على كيفية المعالجة المثلى لإشكاليات الحاضر، فالاختلاف ميزة كبرى لو افتقدناها سنكون نحن الخاسرين، لكن الاختلاف على علاقات الحاضر وبناء على معالمه وقيمه ومناهجه العلمية شيء، والاختلاف على أساس رؤى وأفكار ومعالم ماضوية بائدة شيء آخر!!
[email protected]