نجم : أيها المعتمد بن عباد يتهمك ذي النون بأنك ساهمت بإضاعة طليطلة ، وهي تحت ملكه؟!
المعتمد : عهدتُ ذي النون دائماً يكرهني ، ويحسدني على ملكي ، ويدس لي ، ويمالئ عليَّ الأعداء من عرب وفرنجة.
ذو النون : أسمعت ndash; يا نجم ndash; يتهمني بممالئة الفرنجة وهو أول من فتح هذا الباب واسعاً.. طمع في أملاك (باديس) ملك بني حبوس صاحب غرناطة.. كما طمع في قرطبة التي كانت تحت (بني جهور) ثم صارت الينا فسلبنا اِياها.. ظل يدس لهذا ويكيد لذاك ، حتى أصبح أكبر ملوك الطوائف.. الصديق المخلص الأمين الذي عاونه في كل تلك الغزوات (ألفونسو السادس)..أعترف يامعتمد!!..
المعتمد : هذه الفتوحات التي تحسدني عليها ياذا النون ، هي من تراث أبي المعتضد، وهو الذي وسع أملاك بني عباد ، فأخذنا غرناطة من ابن حبوس ، وقرطبة واشبيلية ثم شلب على المحيط.. صارت دولتي أكبر دولة..
نجم : على حساب من يا معتمد؟.. على حساب ألفونسو السادس؟..أم على حساب أبناء جلدتك من ملوك العرب؟..
المعتمد : وأيُ عيب في أن أجعل من ألفونسو صديقاً لي؟
نجم : العيب في أن هذا الملك القشتالي أعلن في وضوح وصراحة أن هدفه الأسمى هو طردكم جميعاً من اسبانيا.. وانها صداقة مكر وخداعٍ، هدفها أن تناموا على الضّيم راضين ، أو غير راضين لا فرق؟ كان الأولى بك أيها الرجل أن تمد يدك الى بقية ملوك الطوائف.. وتكونوا جبهة قوية متماسكة للوقوف في وجه الطاغية الذي بلغ جبروته أن أرغمكم على دفع الجزية.. مالك قد سكتَّ يامعتمد؟
المعتمد :
سكّن فؤادك لا تذهب بك الفكرُ..
ماذا يعيد عليك البث والحذرُ؟
وازجر جفونك لا ترضى البكاء لها..
واصبر فقد كنتَ عند الخطب تسطبر
وان يكن قدرٌ قد عاق عن وطرٍ.. فلا مردَّ لما يأتي به القدر.
ذو النون : ها قد عاد الى شعوذته!
المعتمد : ما للأغبياء والشعر؟.. هذا شعرٌ يا جاهل!!..
نجم : وان كنتُ من عُشاق شعرك.. ولكن لندع الشعر جانباً اليوم يامعتمد!!
المعتمد : - في رقة ndash; ولم يا نجم؟.. عهدتك ذواق.. ألا يروق لك شعري؟
نجم : انك لشاعر عظيم ورقيق يا معتمد.. ولكنك لم تُستدعى اليوم لترد على الأسئلة بالشعر.. لقد حفظت الكثير من شعرك.. ولكن عندما أعدت النظر في قراءة تاريخك ، فصلت في ذهني بين الشاعر العظيم وبين الملك الضلّيل.. لقد استدعيتك للشهادة ، فصاحبك يزعم أنك مالئت عدو العرب والاسلام، في ذلك الوقت ألفونسو السادس ، بل واتفقت معه أيضاً على أن تسكت اذا هاجم طليطلة ، لقاء أن يدعك هانئاً في أملاكك اكتفاءً بالجزية.
المعتمد : يا نجم كما قلتُ منذ لحظة :
فلا مردَّ لما يأتي به القدرَ
قد شاءت ظروفي أن أقع في هذا الخطأ الذي وقع فيه غيري من ملوك الطوائف.. الركون الى العدو.. وإني والله على ذلك لنادمٌ أشد الندم
فالنفس جازعةٌ والعينُ دامعةٌ
والصوت منخفضٌ والقلب منكسرُ
ذو النون : سيأكلنا هذا الخبيث بشعره الرقيق.. لماذا ndash; يا نجم ndash; لم تُمسك بخناقه كما أمسكت بخناقي؟
المعتمد : ndash; يا نجم ndash; للتاريخ حكمة.. وقد قضى حكم التاريخ أن تنمو حركة الاسترداد الاسبانية نمواً بطيئاً ، ولكن مضطرداً ، فما أن سقطت الدولة الأموية في الأندلس وهي التي صانت التراب العربي والاسلامي في شجاعةٍ وصلابة ، حتى استشرى أمر ملوك القشتاليين وكانوا قد استقلوا بمملكة ليون في الشمال الشرقي.
نجم : المنطقة التي بدأ فيها (بلاي) حركته وبذر فيها بذور التمرد؟
المعتمد : تماماً يا نجم.. بعد مصاهرات ومعاهداتٍ بين هؤلاء الملوك وأمراء (نافار) ، توطد ملكهم في تلك المنطقة وصار ملكهم (فرديناند) الذي.. - مستدركاً -.. أتُحب أن أوضح لك كيف نما نفوذ ذلك الملك (فرديناند)؟
نجم : لا.. ليس هذا مكانه.. مكانه في يوم محاكمتك أنت!!
المعتمد : محاكمتي أنا؟.. محاكمتي على ماذا؟
نجم : عجباً ، في أيامك ضاع الملك كله.. أتريدني أن أكتفي بما أدى الى سقوط طليطلة ودورك في هذا السقوط فقط؟.. لا يا معتمد.. محاكمتك أنت ستأخذ الحيّز الأكبر من اهتمامي نظراً لدورك الكبير في سقوط الأندلس كلها..
المعتمد : دوري أنا؟.. هل نسيت أن ذا النون هو الذي كان على طليطلة يوم سقطت؟
نجم : لم أنسَ.. ولكن ذا النون يتهمك بأنك السبب الرئيسي في سقوطها؟
المعتمد : مرةً أخرى يا سيدي أقول : أن (ألفونسو السادس بن فردناند) لم يكن حليفي وحدي.. كان حليف كل من يستعين به من ملوك الطوائف..
نجم : ليضرب هذا بذاك في الوقت المناسب؟
المعتمد : تماماً يا نجم.. ولكن أكثرنا خضوعاً لألفونسو هذا كان يحيى ذي النون ملك طليطلة.. كان هذا الرجل الذي استدعيتني ارضاءاً له ، هذا كان ألعوبة في يد غلمان قصره ، وأضحوكة لكل جيرانه..
ذو النون : جيراني كانو يتنافسون في اقتطاع أجزاء من أملاكي.
المعتمد : كما كان أبوك وجدك يفعلان يا ذا النون ، ومع هذا فتلك كانت سمة العصر لسوء حظنا.. ولكن أحداً لا يُنكر أنه كان منا ملوكٌ عظام أشاوس!!.. فلا أحد يُنكر عليِّ مثلاً ابداعي في مجالات الشعر والنثر والأدب.. أما أنت يا ذا النون فمن تكون؟.. قل لي؟.. قل لي يا يحيى بن المأمون بن ذي النون؟.. أنت كما قال فيك مؤرخ عصرنا بن بسام : quot; كان يحيى بن ذي النون آيةً في قُرب غَوره ، إمعةً أمره ، أجبن من قبره ، إن حزم لم يعزم ، وإن سدى لم يُلحم quot;..
ذو النون : أعوذ بالله من طول لسانك ولسان ابن بسام.. أما وعدت أن تحمني من المعتمد يا نجم!!.. لقد أعيا شعراء عصره وفصحائهم ، ولست نداً له في هذا..
نجم : ألم يكن الأولى بك يا معتمد أن تساند رجلاً ضعيفاً كهذا بدل أن تمالئ عليه وتساند عدوه؟!.
ذو النون : وكان مسموع الكلمة فينا جميعاً نحن ملوك الطوائف ، فلم يحرك ساكناً ليجمع شملنا ضدَّ عدونا!..
المعتمد : يا ذا النون ألست أنا الذي حاولت انقاذ ما تبقى من الأندلس يوم استدعيت (يوسف بن تاشفين) من المغرب ليكون معنا وجيشه على العدو الاسباني؟!!.. ماذا فعل يوسف؟.. ها؟.. أكلنا ولم يتعرض للعدو الاسباني إلا في الزلاقة.. ثم كيف تطلب مني أن أعاونك وكان شعبك نفسه يكرهك!!.. صدقني ndash; يا نجم ndash; لقد ملَّ الناس في طليطلة حُكمه ، وثاروا به ، ولم يستطع أن يواجه الموقف بأن يتوب عن فسقه ومجونه وعبثه بحال الرعية ، واستخفافه بأقدار الأشراف منهم..
ذو النون : ألم أرسل إليك يا معتمد أطلب المعونة فأبيت؟
نجم : هل فعل ذلك حقاً؟
المعتمد : أجل..
نجم : فلم تعنه؟!..
المعتمد : أتريد الحق أم تريد أن أموه عليك بكذبة تاريخية؟!
نجم : أنت اليوم في منصة الشهادة ، وغداً تقف يا معتمد مكان ذي النون في منصة الاتهام.. وما ستنكره كشاهد ، سترغم على الاعتراف به كمتهم..
المعتمد : حسناً لقد تعمدت أن أدعه لمصيره المحتوم ، كنتُ أريد أن أنتقم؟
نجم : تنتقم؟
المعتمد : لكأنك إذاً لا تعرف ما فعل والد هذا الرجل بابني الظافر أبي عمرو؟
نجم : ماذا فعل؟
المعتمد : كان ذلك حين كان أبوه المأمون على قرطبة.. أرسلت الى المأمون أُطالبه فيه بالتخلي عنها لنا.. ودعني يا نجم أصف لك مشاهد ذلك الموقف والذي لا أشك أن التاريخ قد كتبها لكم.. وسأرويها لك بنفسي.. فها هو المأمون والد ذي النون ، الذي يقف أمامك.. ماذا فعل عندما استلم رسالتي..
* * *
المأمون : - يضحك ساخراً ndash; لقد بلغ افتتان المعتمد بنفسه أن أرسل يطالبني بالتخلي عن قرطبة له ، والعودة الى بلادنا طليطلة.. التعس لا يعرف أننا نقضي الصيف في قرطبة ، والشتاء في طليطلة.. وكلاهما في ملكنا.
المعتمد : وكان ولده هذا ndash; أيها الأمير ndash; لاهياً مع إحدى الجواري ويردد ما قاله أبوه : نعم.. نعم.. نعم.. كلاهما في ملكنا.. فيرد عليه أبوه..
المأمون : أيها الولد الفاسق العاصي ، تعابث الجواري وأنا أحدثك؟
ذو النون : أذناي معك يا والدي وقلبي أيضاً.
المأمون : والله لا أدري كيف سيكون حال الناس حين تملك أمرهم بعدي؟.. أسمعت ما قلت لك؟..
ذو النون : أجل.. قلت شيئاً عن رغبة المعتمد في إجلائنا عن قرطبة!..
المأمون : يقول أنها كانت في ملك بني جهور.. وأننا أخذناها بالحيلة ، وأنه أحق بها منا..
ذو النون : فليأتي إذا شاء ليأخذها ، فنلقنه درساً لا ينساه!!
المأمون : فماذا لو استعان علينا بصديقه الملك (جارسيا)؟
ذو النون : نستعين عليه نحن بصديقنا الملك ألفونسو شقيق جارسيا!
المأمون : ها أنت قد بدأت تحذق في السياسة.. لنكتب إذاً الى المعتمد ونقول له : quot;تعال إذا بلغت همتك الى قرطبة لنذبحك عند أبوابها كما تُذبح النعاج quot;.
* * *
نجم : - ساخراً -.. ماشاء الله!!.. ماشاء الله!!.. أهكذا كنتم تتخاطبون والعدو ينظر؟.. هذا يطلب عون جارسيا ، والثاني يتوسل الى شقيقه ألفونسو!!.. سامحكم الله!!..
المعتمد : يا نجم لا تغضب هكذا.. قلتُ لك إن تلك كانت سمة العصر..
نجم : ما أبشعها من سمة؟.. هه؟.. وماذا فعلت حين وصلتك رسالة المأمون؟
المعتمد : تخاطبت مع جارسيا الذي سار معي الى قرطبة ، فلما تهاوت حصونها ودخلتها جيوشي.. فرَّ منها المأمون وولده وأهل بيته ، ولجأ الى قاعدة ملكه الأولى..
نجم : تقصد طليطلة؟
المعتمد : أجل.. ثم أقمت ولدي الظافر أبي عمرو ملكاً من قِبلي على قرطبة.. وعدت الى اشبيلية.. وساس ولدي الأمور في قرطبة بما علمته من رفق بالرعية ، واكرام لأشراف البلاد ، وتعفف عن أموال الناس.. فأحبوه.. وكان ولدي حسن الطوية.. فلم يفطن الى مكائد أحد وزراء المأمون السابقين.. وكان يُدعى ابن عكاشة.. كان يتصل سراً بالمأمون في طليطلة.. وسأروي لك يا نجم مما دونه التاريخ عندكم وما حدث بعد ذلك.. فها هو المأمون يخاطب ابن عكاشة..
* * *
المأمون : هل تصدقني القول يا ابن عكاشة!!.. لا أصدق أن ابن المعتمد على هذه الغفلة ، لدرجة أنه يسير بدون حرس؟..
ابن عكاشة : وليس على مخدعه رجل واحد يحرسه!
المأمون : يا ابن عكاشة.. إن مكنتني من قرطبة جعلتك نائباً لي عليها.. هل تستطيع؟
ابن عكاشة : أخشى على نفسي من انتقام المعتمد ملك اشبيلية!
المأمون : إذا أخذنا قرطبة من المعتمد هذه المرة ، ذلَّ لنا ورضي بنجاة ابنه من أيدينا.
ابن عكاشة : تعني أنك لا تريد لابن المعتمد أن يموت؟
المأمون : أيلزم أن يموت؟
ابن عكاشة : وكيف نستولي على المدينة دون أن نقتل أميرها وقواد جيشه؟
المأمون : وكيف نصل الى ذلك؟
ابن عكاشة : المال يفعل الأعاجيب.
المأمون : خزائن مملكتي في متناول يدك ، خذ منها ما تشاء من الرِشا بشرط أن تعيد إليَّ قرطبة.. يا ابن عكاشة أنت تعرف كيف أنتقم ممن يخونني؟.
ابن عكاشة : فلم آتيك الى طليطلة بخطتي هذه إذا كنت أنوي خيانتك؟
* * *
نجم : يا للبشاعة!!.. بئس الناس أنتم!!..
المعتمد : بيَّتوا الأمر بليلٍ ، وفاجأوا ولدي ورجاله ذات ليلة ، وفتحوا أبواب قرطبة لجيش المأمون المتربص على مشارفها ، حارب ولدي كالأسد الهصور.. ولكن يد الخيانة طعنته من الخلف فسقط.. احتزوا رأسه وأرسلوا بها إليَّ..
نجم : هذا شيء يقزز.. شيءٌ بشع.. كيف أيها المعتمد أنك قد قلت الشعر في كل أغراضه ولم ترثِ ولدك ببيت واحد؟
المعتمد : يا نجم تلك مصيبةٌ لا يقوى الشعر على وصفها.. لم يكن بعدها في عقلي وفي قلبي سوى الرغبة في الانتقام من بني النون جميعاً.. وحين أمكنني الله منهم واسترددت قرطبة فعلت بهم الأفاعيل ، وإن فرَّ هذا الأُلعبان الجبان بعد موت أبيه الملعون.
نجم : ولكن التاريخ يقول : أن ابن عكاشة فرَّ منك هو الآخر؟
المعتمد : نعم.. هذا صحيح.. ولكنني طاردته بنفسي في الوديان والجبال حتى ظفرت به وأعدته الى قرطبة ، فأمرت بقتله وصلب جثته على أسوار المدينة وإلى جانبها كلب.. كان هذا ما أردته لذي النون هذا وأبيه المأمون.
نجم : ولهذا أيها الملك لم تستجب لتوسلات القادر يحيى بن ذي النون حين ثار عليه شعبه في طليطلة؟
المعتمد : ما كنت أُعين فاسقاً على شعبٍ يكرهه.. كيف كنت تطمع يا ذا النون أن أُعينك على شعبٍ طالبك بإقصاء الجارية الحبشية (زمردة) ، التي جعلتها نائباً على المُلك؟
نجم : حبشية وجارية ونائبة على مُلك طليطلة؟
المعتمد : بل إنها جارية فاسقة مرتشية ، لا تفيق من شدة السُكر ليل نهار!
نجم : لا غروة أن استهان ملوك قشتالة بأمركم!.. هه!!.. ماذا بعد أن ثار شعب طليطلة بالقادر؟
المعتمد : وقع ما كان لا بد أن يقع.. طردوه فلجأ الى قرية بعيدة من قرى أملاكه.. وأرسل الى ألفونسوا السادس ملك قشتالة الزنيم يستعديه على شعبه.. وسال لعاب ألفونسو إلى الثمن.. الى (قصٍّ رطلٍ من قلب الأندلس).. الى طليطلة مفتاح الجزيرة كلها.
نجم : والله ، وإن كان قد رحم البعض منكما التاريخ.. والتمس لكما الأعذار.. فإني في هذا المحاكمة سأشفي بكما غليل كل المكلومين على ضياع الأندلس.
* * *
نجم : إذاً.. لنبدأ محكمتنا هذه بمحاكمتك أيها المعتمد بن عباد ، لتكون المتهم الثاني بعد ذي النون..
المعتمد : ولكنك قلتَ ndash; يا نجم ndash; بأنني كنتُ آخر ملوك الطوائف ممن أُخرجوا من الأندلس ، فلما لا أكون آخر من يُحاكمون؟!
نجم :.. ليكن؟!!