quot;الكاريزما من أهم صفات القيادةquot;، هذا ما اتفقت عليه أغلب الدراسات العلمية في مؤهلات القيادة وصفات القادة والتي تلقى سوقاً رائجاً في الشرق والغرب هذه الأيام. وهي صفة تقترن إلى جوارها صفات التأثير في العقول، وأسر القلوب، وسحر النفوس، ولعلها كلمة يونانية الأصل تعني quot;الموهبة التي تميز فرداً عن غيره بالحضور الطاغي والجاذبية الكبيرةquot;، وهي في نظري ترتبط بعنصر quot;الإبهار الذاتيquot;، بمعنى الإبهار في مخاطبة مشاعر الناس ومداعبة ما يجول في ضمائرهم، أو الإبهار في القوة والنفوذ والأضواء والشهرة، أي أنها الصفة المشتركة بين جميع من قيل فيهم كاريزماتيون. وقلنا هي صفة ذاتية لأنها ملكة ومنحة إلهية في الإنسان، ليست مكتسبة وإن كانت تقبل التطور، ومهما حاول البعض غرسها فيمن لا يمتلكها، فإنه لن تخرج إلا صورة مشوهة بل ومنفرة. وبما أن الإعلام يبحث دائماً عن الإبهار فيما يعرضه، فإن الكاريزماتيين مادة دسمة جداً في الإعلام، وهذا ما حولها من صفة إيجابية جاذبة للنفوذ الشخصي أو الحزبي أو الاجتماعي، إلى غرض وهدف سياسي يجعل من يتمتع بها في مركز القوة بالنسبة لمن حوله، quot;كما ذكر ماكس فيبرquot;، بحيث يسلمونه زمام شؤونهم، وأخذ قرارهم من دون وعي، بعد أن كسب عقولهم وقلوبهم، ومن هنا تبدأ الأزمة.
لا أريد الوقوف عند تحليل الأمثلة التاريخية للشخصيات الكاريزمية، فهذا له مكان آخر، وإنما غرضي أن أقدم تحليلاً تاريخياً وواقعياً عن هذه الظاهرة وأثرها في المجتمعات، وإذا ما انطلقنا من مقولة quot;توماس كارلايلquot; إن الغالبية العظمى من الشعوب ليست إلا قطيع يقوده بطل. فإن العبارة رغم قسوتها تشير إلى quot;قابلية للانقيادquot; عند كثير من الناس على غرار quot;القابلية للاستعمارquot; التي تحدث عنها مالك بن نبي. والمرشح الأقدر على لعب دور البطولة في هكذا مجتمعات، هو القائد الكاريزمي الذي يأتي في لحظة فراغ سياسي اجتماعي، فيملأه ويصحح مسار التاريخ، بما تخلع عليه المجموعة من صفات وقدرات خارقة. على أن هذه القابلية في مجتمعنا العربي ذات امتدادات تاريخية اجتماعية ودينية ترتبط بالقيادة الصوفية الأبوية، وبنظرية الإمام المستبد العادل، وبأثر الظروف القاسية والحروب في خلق عقدة البطل الضائع. ويخطئ من يظن أن القادة الكاريزميين لا يضعون ذلك في أولويات أهدافهم الشخصية والحزبية، فهم يقرؤون الواقع والتاريخ ويحاولون الارتباط بالشخصيات المؤثرة فيه، في محاولة تغطية النقائص والعيوب، واكتساب الهيمنة الشرعية والتاريخية.
إن الكاريزما مهما نجحت في اجتذاب الجماهير وفي الاحتفاظ بولائهم، بل وغسل أدمغتهم أحياناً، إلا أنها وحدها لا تقدر على إحداث التغيير الجذري، ولا تبني المؤسسات الحقيقية في المجتمع، لأنها أساساً قائمة على الفرد الرمز، وتتعارض كلياً مع العمل الجماعي والجهود المنتظمة، بما يجعل من الصعوبة بمكان تحويلها إلى عمل مؤسسي بيروقراطي متوازن. والأمثلة التاريخية تترى عن قادة انحرفوا بشعوبهم عن الحق والعدل إلى الطغيان والظلم، وجروهم إلى استعمار الشعوب واحتلال البلدان وقهر المغلوبين، وعن قادة آخرين ضللوا شعوبهم عندما بنوا انجازاتهم على قصور من الخيال والأوهام، وحولوا هزائمهم إلى انتصارات خطابية وفتوح شعرية وإنجازات ورقية، فأورثوهم الخداع والعار، وقيوداً تئن أعناقهم بحملها.
أما اليوم، وفي عهد العمل الجماعي، ومنظمات المجتمع المدني، فلربما تُعدُّ الكاريزما بخصائصها السابقة ضرباً من الصفات التي تحرف الأنظار وتشوش الرؤية وتضيع جهود المؤسسات، وتقف حائلاً دون تداول المناصب، وتكافؤ الفرص، وتكريم ذوي الكفاءات والاستفادة من خبراتهم. وهي وإن كانت صفة مهمة لحاملها، إلا أنها في الواقع ليس مؤهلاً كافياً لأي منصب قيادي سلطوي. إن ما نحتاجه كمجتمع يغرس أولى خطواته في طريق النهضة واليقظة، إنما هو قيادات حقيقة تتخذ قرارات مصيرية مبنية على رأي عام مجتمعي حقيقي، لا على رؤى مضللة وفردية، وقيادات تأتي بالترشيح والانتخاب لكفاءتها وسيرتها وتاريخها، لا بقدارتها الكاريزمية فحسب، بحيث تكون سبَّاقةً في احترام سيادة القانون، والخضوع لمبدأ المحاسبة، واحترام الرأي الآخر، وأن تكون في الصف الأول في الخدمة العامة بجهودها الحقيقة لا بخطبها العصماء، فالكاريزما الحقيقة فيما أرى هي كاريزما الشخص المتنور ذي الرؤية البنَّاءة، وكاريزما المتفاني بعمله والمخلص والكفء والدؤوب، والذي لا يضحي بمبادئ المجتمع ومصالحه، مقابل قيادة المجتمع، وكاريزما القائد الذي يصارح الناس بهمومهم وآلامهم وآمالهم، والقائد الذي يتميز بالعلاقات الندية مع من حوله، وليس علاقات التبعية والخضوع أو الإقصاء والتهميش.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات