يمثل غوستاف لوبون إحدى المحطات التقليدية التي تتوقف عندها قاطرة الثقافة العربية المعاصرة، إذ حفظت له أدبيات الثقافة العربية اليوم مقولته الشهيرة: quot;ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العربquot;، وصدق مؤرخنا الفرنسي في مقولته هذه، وكانت موقفا شجاعا قفز به فوق السياق التاريخي للغرب آنذاك، وفوق مواقف المؤلف نفسه، إذ برز نجم لوبون في أواخر القرن التاسع عشر في منعطف تاريخي مهم احتدم فيه الصدام في أوربة بين أطروحتين اجتماعيتين واقتصاديتين في غاية الأهمية، هما أطروحات القائلين بالمساواة الإنسانية، والحقوق العامة للبشر، والتحرر الديني وغيره، وأطروحات الانغلاق على الذات، والعنصرية، والطبقية، والفوارق البشرية، وفي فترة بدت فيها الرأسمالية الفردية الصناعية تتسلم الراية من نظام الاقطاع الأميري السائد.

ومن خلال كتابه quot;السنن النفسية لتطور الأممquot; الذي سنأخذه أنموذجا لفكر لوبون، يبدو جليا أنه قد انحاز الطرف الثاني المتمسك بالقيم التقليدية القائمة على الجشع والاستغلال في أوربة، إذ جعل محور كتابه هذا وفكرته هي أن دعوى المساواة بين البشر هي دعوى مريضة تجافي حتميات القدر الذي قسم المجتمعات إلى مجتمعات عليا وأخرى دنيا، وأن على تلك المجتمعات الدنيا أن تستسلم لقدرها، فمن المستحيل أن يتغير موقعها في سلم الحضارات البشرية، وانتقد طويلا دعوى حقوق للمرأة وحريات للشعوب، وقرر فيه أن ما كانت عليه البشرية من حروب واستغلال وقهر وغيره، هو ميراثها المحتم، وأما عن التغيير، فهو عملية تحتاج إلى أجيال وأجيال متباعدة ليتأصل في سلوك الناس وتنطبع به أخلاقهم، خلافا لتغير الطارئ والمفاجئ الذي لن تكون نتيجته إلا الحروب الأهلية والفوضى العارمة. على أن هذا الكتاب من أهم الكتب التي كتبها لوبون، لأنه يعد من جملة الكتب التي كتبها في فترة نضجه وعطائه، أي حوالي عام: 1894م، وبعد أن كتب حضارة العرب 1884م، وحضارة الهند 1887م، وغيرها من مؤلفاته التي طارت شهرتها في الآفاق، ولهذا أجد نفسي أقل تردداً في تعميم ما ذكره لوبون في هذا الكتاب على آرائه ومواقفه عموما من قضايا التطور التاريخي، وحقوق البشر.
ابتدأ لوبون كلامه في السنن النفسية لتطور الأمم بأن أكد أن المبادئ الإنسانية الكبرى كالمساواة والحريات لا يمكن نقلها إلى جميع الشعوب والحضارات، فهناك شعوب لا تستحقها ولن تحسن التعامل معها، فقال: quot;ومما دلنا عليه علم النفس الحديث بجانب دروس التجربة القاسية هو أن النظم والتربية التي تلائم بعض الأفراد والأمم تكون بالغة الضرر لأفراد آخرين وأمم أخرىquot;. ويبدو مراده من quot;تلك الشعوبquot; جليا، عندما قسم العروق البشرية إلى مستويات وعروق أربعة، تراوحت بين بدائية ودنيا ووسطى وعليا، جعل العرب الفاتحين الرحماء! في جملة أصحاب العروق الوسطى الذين quot;أبدعوا نماذج حضارات راقية لم يجاوزها غير الأوربيينquot;.
وأكد أن قدر تلك الشعوب ومكانها العالي أو البدائي قدر حتمي، لا يغيره توجه رجالهم إلى العلوم والفنون، فإنهم مهما ارتقوا في سلم العلم والثقافة فإن ذلك quot;لا يعطيهم سوى طلاء سطحي غير مؤثر في مزاجهم النفسي، وإنما الذي يعجز التعليم عن منحهم إياه، هو ما يتصف به الغربيون من وجوه تفكير ومنطق لصدوره عن الوراثة وحدها.quot; وعليه فإن المؤلف الشهير قد قرر بالنيابة عن التاريخ والقدر أن الشعوب غير الأوربية لا تستحق التعليم ولا المساواة، وما ذاك لعلة مؤقتة فيها، وإنما لصفات جسدية ونفسية متأصلةٍ فيها، تتعلق بأحجام الجمجمة وأشكال الأدمغة، وأثرها في الحضارة، والتي بدا مقتنعا بها وهو يصول ويجول فيها بحثا وشرحا في رسالته quot;مباحث تشريحية ورياضية في فروق حجم الدماغ، وفيما بين هذه الفروق والذكاء من صلاتquot;، فأوجد بمقولته هذه الأساس النظري للنازية العنصرية الهتلرية فيما بعد.
ولأنه في موقفه كان يعبر عن الضمير الغربي عموما، والطبقة المتنفذة خصوصا، ما وجد غضاضة في يؤكد أن المبادئ الإنسانية العامة والمساواة بين البشر لا يمكن أن تغرس سريعا في الشعوب، فقال: quot;وقد تقدم العلم بالحقيقة فأثبت فساد نظريات المساواةquot;، ولا أن يشير إلى أنه من المثقفين الغربيين القلائل الذين يصرحون بمعارضة فكر المساواة رغم تأكيده أنهم جميعا لا يقبلونه، في قوله: quot;ومبدأ مساواة الناس الوهمي هو ذلك الذي قلب الدينا وأحدث في أوربة ثورة عظيمة، وأوقع أمريكا في حرب الانفصال... لا تجد عالما نفسيا ولا رجلا سياسيا على شيء من الثقافة لا يعلم خطأ ذلك المبدأ، وقليل من هؤلاء من يجرؤ على مكافحته مع ذلكquot;. ولا أن يتساءل بصراحة مؤلمة: quot;أفيمكن أن ينظم الاسباني والانكليزي والعربي في زمرة واحدة؟ ألا تبدوا الفروق النفسية بينهم لكل ذي عينين؟quot; ونقول نعم إن الفوارق النفسية والثقافية كبيرة بين الشعوب، ولكن ينتظمها جميعا الفطرة الإنسانية والمبادئ التي تصب في مصلحة الإنسان بقطع النظر عن أصله وفصله، وما وجد زبانية الحروب والاستعمار في التاريخ قاعدة نظرية أفضل من هذا الفكر.
وأتبع كلامه في رفض المساوة بين البشر، برفض دعوات تحرير المرأة والاعتراف بإنسانيتها، ورفض أن تنصف حقوقها مع الرجل، فقال: quot;وباسم هذا المبدأ -المساواة- تطالب المرأة بمثل حقوق الرجل، وبمثل تعليمه ndash;وكأنه يشير إلى أن الخير في تجهيلها وإقصائها- غافلة عن الفروق النفسية العميقة التي تفصها عنه، والمرأة إذا ما كتب لها النصر في ذلك، جعلت من الأوربي بدويا لا منزل له ولا أسرة.quot; وإن الذي فكك الأسرة الأوربية ليسوا دعاة المساواة وإنما دعاة الاستغلال والمتاجرة بها، الذين حرفوا البوصلة عن وجهتها الصحيحة.
ويصح من خلال المواقف السابقة أن يصنف لوبون ضمن الفلاسفة الذين أرادوا الوقوف بوجه حركة التاريخ، وأن يعيقوا حركات التحرر الإنساني، وأن يعيدوا أوربة إلى ما كانت عليه قبل الثورة الفرنسية، وأنه اختلق حتميات تاريخية لا تمت لحركة التاريخ بصلة، وإنما هي ذريعة الرجعية في كل عصر، وانطلاقا من آرائه نفسها سأتوقف عند نقطتين منها بالتحليل والنقد. فإنه خلافا لما ذهب إليه لوبون من أن التغيير لا يكون سريعا، وأنه لن يتجذر في الشعوب إلا بعد أجيال وعصور، فإنا نرى أن النبوات والثورات على مدار التاريخ قد استطاعت أن تبني المجتمعات من جديد، وتغير الأفكار والعقائد والقيم، في فترات زمنية قصيرة نسيبا مع ما ذكره، وأما عن الانتكاسات التي طرأت عليها فإنها كانت نتيجة أثر القوى الرجعية المتسلطة لا قوى التغيير الصاعدة. والأمر نفسه عندما ذهب إلى أن التغيير السريع لن يمنح الإنسانية إلا الفوضى والدمار، فإن دورة التاريخ قد تؤكد العكس عندما نرى التغيير العميق الذي أصاب الفلسفة والفكر البشري في القرن الماضي، وما برز من أفكار التحرر والمساواة الانسانية، فكان أن نشبت الحروب العالمية نتيجة جهود الذين أرادوا أن يلتفوا بتلك المبادئ الإنسانية وينقلبوا عليها، وأن يوظفوها كديكور عام يخدم غاية استغلال الشعوب الأخرى واستعمارها واجتثاث خيراتها وامتصاص دمائها وخيراتها، فالثورات المضادة على مدار الأيام لم تقم بهم الشعوب ضد المبادئ الجديدة، وإنما قام بها من تأثرت مصالحهم بانتهاء التوازنات الاجتماعية (Status Quo) القديمة، وقيام توازنات اجتماعية جديدة.
لقد كان لوبون ينظر إلى التاريخ من وجهة نظر المستعمرين، وارتكز في تقسيمه الشعوب على هذه الرؤية، وهي النظرة التسلطية والنازية الحقيقة، التي انطلقت منها الشوفينية والنازية، وتلقفها صموئيل هنغتون في صدام الحضارات، وفرانسيس فوكوياما في نهاية التاريخ. والمفارقة تبدو بوضوح عندما وقع ما كان قد حذر منه الكاتب من فوضى وحروب إثر دعوات المساواة، ولكنها لم تكن بأيدي دعاة المساواة والحريات في واقع الأمر، وإنما على أيدي دعاة الفوارق والعنصرية والاستغلال، وبموازنة بين ما كان يدعو إليه لوبون في القرن الماضي وما وصل إليه حال الفكر الإنساني اليوم، تبدو إشكالية الوقوف بوجه حركة التاريخ، وهشاشة التمسك بالوضع القائم، والتخوف من التغيير، وأهيب بالمفكرين العرب ألا يكونوا حجرة عثرة أمام صيرورة التاريخ، لأنها ستتجاوزهم وتتجاوز أطروحاتهم، وستحكم عليهم الأجيال يوما ما بأنهم كانوا كـ (لوبون) حماة القهر والاستغلال.