هنالك تعارض بين ظاهرتين واسعتين ومؤثرتين فى المجتمعات والثقافات وهما ظاهرتا التكفير والتفكير حيث أن من يفكر لايكفر ومن يكفر لايفكر عادة، التفكير يقدم الحياة والرقى والإزدهار ولكن التكفير يقدم الموت والتخلف والجمود فالمفكر بطبيعته الثقافية لا يحتاج إلى التكفير فهو يستعمل عقله وفكره وثقافته لكن التكفيرى لايمتلك القدرة الفكرية والحجة البالغة والدليل المقنع فيلجأ كعاجز منغلق خوفا من الفكرة وأثرها إلى التسقيط والتكفير والحكم بالإلحاد والزندقة والإرتداد والخروج عن الدين ثم تحليل ماله وعرضه ودمه وإحراق كتبه وأفكاره. إن التكفير سيف شاهر ضد المفكرين والمثقفين والأدباء والمصلحين على مر التاريخ لمحاربة الفكر والثقافة والأدب عندما تنطلق فى رحاب الفكر والنقد والتحليل فتزاحم أصحاب السلطة والنفوذ والسطوة من السلاطين ووعاظهم خصوصا رجال الدين لإصدار تلك الفتاوى فالتكفير لايخلو من عوامل سياسية وإجتماعية وإقتصادية. وكلما منع الفكر والعقل والإنفتاح زاد التكفير والتعصب والجهل والإنغلاق والتطرف فالمفكر والمثقف يتحرك فى ميادين الثقافة والفكر والعطاء إلى أفق أرحب فى عالم المعرفة والعلوم العصرية والحضارة البشرية والتجارب الإنسانية لمعالجة أزمات مجتمعاتنا فضلا عن قيمة التحاور والتعايش والإنفتاح مع الآخر فى حوار الأفكار وتلاقح العقول وتكامل الثقافات بعكس الثانى الذى يضيق صدره من فكر أو ثقافة أو طرح يخالفه أو نقد لأفكاره فيعيش الإنغلاق والمحدودية وضيق الأفق، رغم أن القرآن الكريم يحمل عشرات الآيات والأدلة الساطعة وهى تدعو إلى التفكير والتعقل والتدبر والتأمل (أفلا يعقلون) (أفلا يتدبرون) بل الحرية للآخر (لا إكراه فى الدين) (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (لكم دينكم ولى دين) (عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إن اهتديتم) كذلك الحوار مع الآخر (إنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين) (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) حتى أن الله تعالى قد حاور الشيطان مرارا فى القرآن، وقد سأله الشيطان (أنظرنى إلى يوم يبعثون) فأجابه تعالى (إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) وحاور موسى فرعون وإبراهيم نمرود ومحمد للمشركين، كما رفض القرآن التحجر الفكرى (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون) (قل هل يستوى الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) ورفض تقليد الآباء دون تدبر (قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباؤنا أولوا كان آباؤهم لايعقلون شيئا.. ) بل دعى إلى التأمل حتى فى النص الإلهى المقدّس (أفلا يتدبرون القرآن) ليكون النص متحركا مع آفاق العقول المفكّرة وبشر أصحاب العقول والأفكار (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) لأنهم يعملون عقولهم وفكرهم ليكون تدبر وتأمل لا تقليد فارغ كتقليد الدواب (إنّ شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون) فقد ميز الله الإنسان بعقله عن الدواب فإذا ترك عقله تحول إلى شر الدواب كما تشير الآية القرآنية السالفة.
لقد حصلت فى التاريخ الإسلامى بعض الفرق المتعصبة التى تحكم بتكفير الآخرين رغم إسلامهم ثم أفتوا بوجوب قتلهم لكفرهم وخروجهم عن الملة والدين، ويعتقد الباحثون أن الظاهرة قد نشأت زمن الخوارج الذين كانوا فى صف الإمام على بن أبى طالب فى معركة صفين وبعد رفع المصاحف حيث طلب حكم القرآن وأصرّ الخوارج لقوله تعالى (لا حكم إلا لله) فقد كانوا حفاظا للقرآن وذوى الجباه السود لكثرة صلاتهم وصيامهم وعباداتهم، وخير من وصفهم ابن عباس (رأيت جباها ذات ثفنات من كثرة السجود وأيادى كثفنات الإبل وعليهم لباس بال زهيد وهم مشمرون فى السجود والخضوع والبكاء والتسليم). ثم تحول هؤلاء الخوارج إلى قطاع طريق ونصبوا خيمة خارج المدينة لمنع المسلم من المرور حتى يكفر عليا ومعاوية فإن أبى يقتل، وقد قتلوا الكثير ومنهم صحابيا ثم بقروا إمرأته الحامل لأنهما رفضا تكفير علي، علما أن الخوارج مروا ببستان ومد أحدهم يده لقطف تمرة فاستنكروا جميعهم بشدة وعنف بعضهم بعضا لأنها إعتداء على مال مسلم بغير حق، وهو التعارض الصارخ بين استحلال الدماء وتحريم أكل تمرة فى سذاجة لفهم الدين. حاول الإمام علي محاورتهم قائلا (من علّمكم قتل الناس على آرائهم) ليعلمنا حرية الآراء ولايجوز القتل على الرأى، فقالوا (قاتلك الله ما أفقهك، فنحن لا نؤمن بما تقول ولا نصلى خلفك) فقال (لكم كل ذلك، ولكم أكثر من ذلك) أى لهم حقوق الإعتراض عليه وعدم الصلاة وراءه فهى حقوق طبيعية لهم ثم بدأ يعدّد لهم حقوقا إضافية لايعرفونها، لكنه يتدارك فى وضع الحد الفاصل لحقوقهم قائلا (بينى وبينكم قتل الناس وظلمهم) أى لهم كل الحريات ما لم يعتدوا على الآخرين فى ظلمهم وقتلهم وعندها سماهم (أنتم شر الناس جميعا) لأنهم يستغلون الدين بأبشع وسيلة فى قتل أصحاب الأفكار الأخرى رغم وصيته بعدم قتالهم بعده (لا تقتلوا الخوارج بعدى لأنهم طلبوا الحق فأخطؤوه). علما أنّ قاتله عبد الرحمن بن ملجم من الخوارج قائلا وهو يضربه (الحكم لله لا لك يا علي) فى مسجد الكوفة وليلة القدر من شهر رمضان لاعتقاد الخوارج بتقربهم إلى الله فيها حتى قال قائلهم مادا ابن ملجم (ياضربة من تقى ما أراد بها hellip; إلّا ليبلغ من ذى العرش رضوانا). لكن الحقيقة أن التكفير قد ظهر قبل الخوارج فى التعامل مع الخليفة الثالث عثمان بن عفان ومحاصرته لأكثر من عشرين يوما وتكفيره ثم قتله بوحشية وهو يقرأ القرآن مع قطع أصابع زوجته وبقائه ينزف طوال الليل ثم محاولة منع دفنه فى مقابر المسلمين.
لقد قام بعض أصحاب المذاهب بتكفير الفرق الإسلامية الأخرى حتى أن عبد الله بن أحمد بن حنبل (توفى 290 هجرية) فى كتابه السنة قد اعتبر أبا حنيفة (كافر، زنديق، مات جهميا، ما ولد في الإسلام أشأم ولا أضر على الأمة منه، وأن الخمّارين خير من أتباع أبي حنيفة، وأنه أبو جيفة، وأنه لا يسكن البلد الذي يذكر فيه أبو حنيفة، وأن استقضاء الحنفية على بلد أشد على الأمة من ظهور الدجال، وأنه من المرجئة، ويرى السيف على الأمة، وأنه أول من قال القرآن مخلوق، وأنه يترك الحديث إلى الرأي، وأنه يجب اعتزاله كالأجرب المعدي بجربه، وأنه ترك الدين، وأنّ أبا حنيفة وأصحابه شر الطوائف جميعا، وأن حماد بن سلمه كان يقول:إني لأرجو أن يدخل الله أبا حنيفة نار جهنم)! وهكذا كان صراع الفرق والمذاهب والملل حتى أورد البعض أحاديث الفرقة الناجية لتنسب كل فرقة نفسها إليه باعدة الآخرين عن جنتهم التى صوروها واحتكروها وكأنهم أقرباء الله وحده وقد اختارهم دون سواهم وليس رب العالمين للناس جميعا ورحمة للناس كلهم وهو يلخّص رسالته (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) بينما بات التكفيريون نقمة على الإسلام والمسلمين والعالم كله.
وقد تم تكفير العلماء الكثيرين مثل ابن سينا لذلك أجابهم (ليس تكفيرى بسهل أو جزاف) بل كُفّرَ من قال بكروية الأرض أو حركتها أو ركوب السيارة أو الطيارة عند اكتشافها آنذاك متوهمين أنها من صنع الشيطان أو دول الكفر بسبب بعد الفقيه عن الواقع والحياة والعلوم الحديثة فهو يستغرق فى كتب قديمة وأمة قديمة ولغة مليئة بالتعقيد والإشكالات رغم تسطيحه للقضايا الإجتماعية والفكرية والفلسفية والعلمية ومن الملاحظ غرابة فتاوى البعض حول الأمور العصرية كالإستنساخ والتلقيح و(تبديل رأس الرجل برأس دابة) وما سمى بالفقه الحديث. أما المثقف فهو يعاصر الواقع وتحديات همومه وتطلعاته والعصر الحديث فيكون أكثر واقعية وموضوعية وحيادية مع العصر ومعارفه وتحدياته لكن بعضهم ربما يسطح التراث والتاريخ ويغفل آثارهما مما يجعل الفجوة بينهما تكون واسعة كبيرة.
وفى التاريخ حتى يومنا المعاصر نماذج كثيرة فيما حصل لتكفير بعض الفرق الأسلامية الفقهية والكلامية، كالمعتزلة وما حصل لإخوان الصفا ومذابح قصة خلق القرآن، وكذلك تكفير الجاحظ وأبي حيان التوحيدى ونصر حامد أبى زيد وطه حسين وأمين الخولى ومحمد أحمد خلف الله وفضل الرحمن ومحمد أركون وحسن حنفى وفرج فودة ومحمد عابد الجابرى ومحمود طه والغزالى وعلى الوردى وعلى شريعتى والمعرى والمتنبى والرصافى والجواهرى ونزار قبانى ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وابن عربى ودريدا والقائمة طويلة جدا. ولقد أجاد نصر حامد أبو زيد فى كتابه (التفكير فى زمن التكفير) ضد الجهل والزيف والخرافة حيث جعل زماننا العصيب لتكفير المفكرين شارحا محنته الشخصية فيما عاناه من فتاوى تكفيره دون مناقشته ومحاورته ثم تطليق زوجته إبتهال يونس فى مصر لتلحقه إلى هولندا وهو يدرس فى جامعة لايدن، علما أن مشكلته الحقيقية تكمن فى إعادة قراءة النص ومحاولة تحريره من القراءات الكلاسيكية التقليدية المكررة نحو أفق رحب يناغم العصر وعلومه مستفيدا من أدوات معرفية وعلوم حديثة كما نطالع فى كتبه وأبحاثه مثل (الإمام الشافعى والوسطية) (إشكاليات القراءة وآليات التأويل) (المجاز فى القرآن عند المعتزلة) (هكذا تكلم ابن عربى) لذلك يقول أبو زيد فى مقدمة كتابه عن التكفير (من المخجل أن يوصف بالكفر من يحاول ممارسة الفكر وأن يكون التكفير هو عقاب التفكير وأن تتحول الجامعة مكان المعرفة والعلم والأفكار إلى جامع وتحولوا معها إلى وعاظ فى نار الإسلام السياسى.. خطابى يهدد خطاب الإسلامويين لأنى أحلله وأكشف النقاب عن الخطأ والتلاعب فى خطابهم السياسى وإنهم يعلمون أنى لست مرتدا ولايوجد فى كتبى دليل واحد على ذلك أبدا). لا يستطيعون الحوار فيلجؤون إلى التكفير وسيلة العاجز فى قمع الفكر إنها قصة قديمة حديثة وصراع دائم للبشرية بين الجمود والتحرر، بين القديم والحديث، بين العقل والنقل، بين التاريخ والحداثة، بين السنة والبدعة، بين النص والإجتهاد، بين التقليد والتجديد، بين الثقافة والفقاهة وغيرها
ومن هنا يظهر الجدل بين المثقف و الفقيه، فالمثقف له دوره المعرفى العلمى كما قال سيمور مارتن وريمون أرون ودور آخر كناقد ومقيم كما قال كارل مانهايم، فقد يعترض الفقيه الذى يريد احتكار فهم النص وتأويله ولايسمح بالنقد حتى لفقهاء آخرين عند المزاحمة فى السلطة والنفوذ والسطوة وهو ما حصل لفقهاء وأئمة مذاهب على مر التاريخ. إن الفتاوى التكفيرية عادة ما تحمل دوافع سياسية خوفا من الفكر والثقافة والوعى لكنها تؤطرها بجانب دينى وقدسى حيث لايمكن أن تصارح الناس بدوافعها السياسية الحقيقية فإن الناس بطبيعتهم العاطفية فى مجتمعاتنا يتحمسون ويتفاعلون مع الدوافع الدينية بشكل أكبر وأبلغ من دوافعها السياسية الحقيقية كما ذكر على الوردى وعلى شريعتى ومحمد أركون. والحقيقة المهمة أنه كلما منع التفكير والعقل والنقد انتشر التكفير والتعصب والجهل لذا تظهر الحاجة إلى النقد الموضوعى الهادف فى حركة الفكر والثقافة والنقد فى تلاقح أفكار لزوميات المعرى وحكمة المعتزلة وتفكير أبى زيد وطواسين الحلاج وفتوحات ابن عربى وأدب طه حسين ووعاظ الوردى وأنسنة أركون وردود الجاحظ ورسائل إخوان الصفا وإشارات أبى حيان ولغة الخولى وفلسفة ابن رشد ونقد الجابرى وحداثة فضل الرحمن وما بعد الحداثة لدريدا وغيرها من أجل حركة العقل والفكر فى رحاب آفاق الإبداع والتقدم والرقى ولم يمكن للغرب أن يتقدم لولا الحداثة وتحجيم دور الكنيسة بعكس دولنا فى تراجعها الفكرى والحضارى فى سيطرة أحزاب الإسلام السياسى ورجالها فيما يذكرنا بالفترة المظلمة حيث حكم الكنيسة ومحاكم التفتيش وصكوك الغفران.
كما ذكر القرآن الكريم قصة ذلك اليهودى فى المعركة وهو يتشد الشهادتين بصوت عال حتى يحقن دمه من القتل فبادره مسلم بالقتل متوهما أن التشهد ظاهرى وليس حقيقيا لكن القرآن والنبى قد قرّعاه على ذلك وقال له النبى هلا شققت عن قلبه ليكون عبرة لغيره وتكون الآية رادعة لتلك الظاهرة خالدة على مر التاريخ.
وهكذا يكون التطرف فى فهم الدين واحتكاره وتحويل تسامحه إلى تكفير وقتل من خلال اجتزاء نصوص ظاهرية وإخراجها عن سياقها وظروفها بعيدا عن دراسة الزمان والمكان وشرائطها الموضوعية وأسباب النزول فضلا عن ترك الآيات العامة الواضحة الأخرى فى مقاصد الشريعة من الحب والإنسانية والرحمة التى تحتاجها أمتنا فى فهم الآخر والتفاعل البناء معه والإستفادة من عطاءاته المفيدة و اكتشافاتهم المتنوعة ولعله التعارف المذكور فى علة الخلق فى القرآن الكريم (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وغيرها.
يتوهم البسطاء أن التكفيريين أحرص الناس على الدين وفهمه، بينما ترى الكثيرين منهم أحرص الناس على دنياهم وأهوائهم ونسائهم وأموالهم ومصالحهم ومحاربة خصومهم حتى المؤمنين وقذفهم بأشد التهم دون تحقق أو تدقيق لاحتكار الساحة لهم وهم مستعدون للتحالف مع الشيطان فى تحقيق مصالحهم.
لازالت فتاوى التكفير تنزل على المثقفين والمفكرين والأدباء والنساء نتيجة تسلط الأحزاب الدينية الإسلاموية ومرجعياتها وسطوة الفقيه وكأنه يمثل الله فى الأرض ليحكم ويحتكر فهم النص وتأويله hellip; وما يحصل فى العراق مثلا من إغلاق مراكز الثقافة والفكر والتنوير وتصويرها كأنها أماكن للفساد وقتل العلماء والصحفيين والكوادر وإفراغه من العقول والثقافة فيما هو أشبه بحكم ولاية الفقيه وطالبان وهى تحمى وتجيز سرقة المال العام والحقوق الشرعية بالمليارات وتزوير الشهادات وسرقة حتى مواد البطاقة التموينية لحاشياتها وقياداتها وعناصرها من وعاظ السلاطين فى محاولة تحويل بغداد إلى قندهار وقم فى الجهل والتخلف والتعصب والقمع للحريات والثقافة والفكر والأدب وحقوق الإنسان.