حالة عربية بحاجة لدراسات اجتماعية ونفسية ربما تتمكن من تفسير أهم ظواهر هذه الحالة، ومن أقذرها وأكثرها سوءا تشبت الشخصية العربية بالسلطة أو المركز سواء كانت في مستوى رئاسة الدولة او رئاسة دائرة من دوائر الدولة، فليس من السهل تقبل الشخصية العربية مسألة تدوير السلطة والمنصب عبر الأسس الديمقراطية المستندة لإرادة الشعوب كما هو حاصل في غالبية الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية التي تمّ مسح كلمة (الانقلاب العسكري) من قواميسها اللغوية الحياتية، لذلك أصبح مفهوما ومتفقا عليه عند هذه الشعوب، أنّ من يصل لرئاسة الدولة بالطرق الشرعية الديمقراطية عبر انتخابات نزيهة شفافة، من السهل والطبيعي عنده أن يترك السلطة بعد انتهاء ولايته أيا كانت مدتها أو بعد عدم تجديد هذه الولاية عبر صناديق الانتخابات. أمّا في أقطارنا العربية من يصل لكرسي الرئاسة والسلطة عبر الانقلابات العسكرية الدموية التي اشتهرت بها خاصة سوريا والسودان، فمن الصعب على هذا الانقلابي التخلي عن السلطة بالوسائل الديمقراطية والسلمية، لأنّ هذا السلوك يتنافى من الأساس مع أخلاقه وتربيته التي حفزته للقيام بانقلاب دموي للإستيلاء على السلطة ومواصلة نهب البلاد وقتل العباد، فأساسا الانقلابات العسكرية من المستحيل أن تخلو من القتل وسفك الدماء والزج في السجون والمعتقلات، وهذا السلوك يدلّ على نوع التربية والثقافة الدموية السائدة في حياتنا العربية منذ مئات السنين. والأكثر سوءا ونفاقا هو قيام بعض هذه الانقلابات باسم الإصلاح والتصحيح وبعضها باسم الإسلام، و quot;الإصلاح والتصحيح والإسلامquot; براء من سلوك هؤلاء الإنقلابيين الذي يعقب امساكهم بالسلطة، حيث تتحول هذه الشعارات الكاذبة إلى سجون ومعتقلات و ظلم وقمع وتعذيب لا يستثني بعض من ساعد هؤلاء الإنقلابيين على وصولهم وإمساكهم بالسلطة كما سنذكر حالة حسن الترابي الذي ساعد هو وحزبه انقلاب عمر البشير ثم انقلب البشير على الترابي وزجّه في السجن عدة مرات لسنوات طويلة.

مطلوب الجنائية الدولية السوداني مثالا صارخا
يشكّل quot;عمر حسن البشيرquot; نموذجا من أسوأ نماذج الطغاة العرب لا يماثله في هذا السوء إلا أسود سوريا الوحوش. هذا البشير المبشّر بالكوارث والجرائم يتربع على صدر الشعب السوداني بالقهر والإعدامات منذ شهر يونيو 1989 ( أي قرابة 25 عاما حتى اليوم ) منذ أن قام بانقلابه المشؤوم على حكومة الانتخابات الديمقراطية التي كان يرأسها الصادق المهدي، والمثير في انقلاب العار هذا أنّه تمّ بدعم كامل وعلني من quot;حسن الترابيquot; وحزبه quot;الجبهة الإسلامية القوميةquot; وهو يعرف أنّ حكومة الصادق المهدي منتخبة ديمقراطيا ، وهذا العمل المخزي من quot;حسن الترابيquot; وحزبه يوضّح مدى انتهازية بعض القوى الإسلامية التي لا توفر أي عمل مهما كان مشينا ولا أخلاقيا ضد من لا يتفق مع رؤاهم بالمطلق، وقد نال الترابي عقابه على يد حليفه الانقلابي عمر البشير باعتقاله وسجنه عدة مرات لسنوات طويلة. والغريب أنّ غالبية القوى والأحزاب الإسلامية المتعاطفة مع الترابي تتناسى عمدا هذه الصفحة السوداء في مسيرته الدينية والسياسية، فأي إسلام يقبل ممن يقدّم نفسه على أنّه مفكر إسلامي ودعوي، أن يدعم انقلاب عسكري ضد حكومة ديمقراطية منتخبة عبر إرادة الشعب السوداني؟. بينما استنفرت غالبية القوى الإسلامية كافة ما لديها تأييدا للرئيس محمد مرسي الذي تمّ عزله من منصبه الرئاسي وهو المنتخب ديمقراطيا من الشعب المصري، فما الفرق بين الانقلاب على الصادق المهدي والانقلاب على محمد مرسي، أم أنّ هناك (انقلاب عن انقلاب بيفرق)، وهذا من شأنّه أن يدعم وجهة نظر القوات المسلحة المصرية التي ترى أنّها لم تقم بانقلاب عسكري ضد محمد مرسي بل تحركت لعزله تلبية لرغبة شعبية حاشدة.
وبعد أن انفرد البشير بالسلطة مدعوما من العسكريين الانتهازيين استمر في مسيرة دموية شمال السودان وجنوبه. في الشمال مارس تطهيرا عرقيا ومجازر جماعية أودت بحياة ما لايقلّ عن نصف مليون مواطن في منطقة درارفور، أهلته لأن يكون مطلوبا منذ سنوات للمحكمة الجنائية الدولية، وإصرار سكان الجنوب السوداني على الاستقلال مهما كلّف الثمن، فرضخ هو وحكومته العسكرية للإستفتاء الذي كانت نتيجته تصويت سكان الجنوب السوداني للإستقلال بالأغلبية المطلقة في الاستفتاء الشعبي الذي أعلنت نتيجته النهائية في فبراير 2011 ، وتم الإعلان عن استقلال quot;دولة جنوب السودانquot; وعاصمتها مدينة (جوبا) وباعتراف حكومة الطاغية عمر البشير وغالبية دول العالم في التاسع من يوليو عام 2011 ، وبمجموع سكان لا يقل عن 10 مليون مواطن. فهل كان إصرار ونضال الأغلبية المسيحية في دولة الجنوب سنوات عديدة من أجل الاستقلال من فراغ؟ أم احتجاجا على قمع ودموية هذا الطاغية ومجازره الجماعية التي لم تستثني معارضيه من المسلمين أيضا، لدرجة أنّ السودان في زمن حكمه الدموي الذي ما زال مستمرا، أضيفت لقائمة الدول الأكثر قمعا خاصة للمعارضين السياسيين وحرية التعبير، ناهيك عن القوانين التي فعلا تثير الضحك والبكاء مثل منع وتحريم أن ترتدي المرأة (البنطلون) والحكم على من تفعل ذلك بالجلد، كما حدث في يوليو من عام 2009 مع الصحفية السودانية quot; لبنى أحمد الحسينquot; وعشرة نساء أخريات تمّ جلدهن فعلا.
قضاء ومحاكم فاسدة تقضي بحبس وجلد المتظاهرين،
وهذا العمل الوحشي ليس جديدا على قضاة السودان ومحاكمها وغيرها العديد من الدول العربية، حيث أمرت محاكم تابعة للمجرم البشير بحبس وجلد 45 متظاهرا ضد هذا الطاغية، تمّ توقيفهم أثناء مظاهرات سلمية تطالب بحرية وكرامة الشعب السوداني المنهوبة منذ ربع قرن، وهذه الأحكام الدموية، حفزت quot; الحزب الاتحادي الديمقراطي quot; على الانسحاب من الشراكة مع حزب البشير الذي يقود هذا القمع، حيث تؤكد منظمات محلية ودولية أنّ عدد القتلى برصاص قوات الحكومة فاق المائتي قتيل، وحسب تصريحات الحكومة نفسها فقد فاق عدد المعتقلين 700 مواطن سوداني.
حسب سلوك البشير مع الآخرين فهو يستحق الإعدام،
فقد تعرضت سلطته الانقلابية لعمل انقلابي مماثل في عام 1990 قاده الفريق خالد الزين نمر واللواء الركن عثمان إدريس وقادة عسكريون آخرون، وبعد فشل الانقلاب قام البشير باعتقال 28 ضابطا تمّ إعدامهم بعد محاكمة عسكرية استمرت عدة دقائق، وبعد عملية الإعدام قام بتطهير كامل للقوات المسلحة السودانية من كل من كان يعرف هؤلاء الضباط الذين تمّ إعدامهم أو كان على علاقة معهم أيا كان مستواها. فلماذا انقلابه على حكومة الصادق المهدي مبرّر ومحاولة هؤلاء الضباط الانقلاب عليه غير مبرّر وتمّ إعدامهم؟. منطقيا وقياسا على سلوكه هذا، ألايستحق هو نفسه الإعدام منذ شهر يونيو 1989 تاريخ انقلابه الدموي؟.
هذه الجرائم غير سرقاته المالية،
حيث اتهمه quot; لويس مورينو أوكامبو quot; مدعي المحكمة الجنائية الدولية باختلاس مبالغ تصل إلى 9 مليار دولار من أموال الدولة وإيداعها في حسابات أجنبية، وفقا لمراسلات دبلوماسية أمريكية سربها موقع ويكيليكس. وتثبت هذه الوثائق المسرّبة كما نشرتها صحيفة الجارديان البريطانية إن دبلوماسيين قد نقلوا عن المدعي العام للمحكمة الجنائية قوله إن الجزء الأكبر من هذه المبالغ قد يكون أودع في بنوك بالعاصمة البريطانية لندن. لذلك بعد كل جرائم التطهير العرقي في دارفور وكافة الجرائم المرتكبة بحق عموم الشعب السوداني في شماله وجنوبه ألا يستحق هذا المجرم التسليم لمحكمة الجنايات الدولية تنفيذا لقرارها الصادر منذ مارس 2009 . الأمل معقود على استمرار وتصعيد الحراك الشعبي السوداني كي يطيح بهذا الطاغية ويقوم بتسليمه لمحكمة الجنايات الدولية، فلا أمل في الدول العربية التي استقبلت أكثر من دولة منها هذا المجرم متحدية قرار محكمة الجنايات الدولية، وكان أغرب تحد لهذا القرار من الرئيس المصري المعزول محمد مرسي الذي استقبل هذا الطاغية المجرم في القاهرة في مطلع فبراير 2013 ، وهو الرئيس الذي جاء مضادا للرئيس محمد حسني مبارك واصفا إياه بالطاغية، فإذا به يستقبل طاغية ارتكب بحق الشعب السوداني من قتل وتطهير عرقي لم يمارس حسني مبارك نسبة تذكر منه بحق الشعب المصري..لذلك فالأمل معقود على تحرر الشعب السوداني من الخوف والخروج بالملايين ضد هذا الطاغية كما فعل الشعب المصري والتونسي والليبي والسوري الآن..فيكفي شعوبنا مذلة وهوانا..وإذا سكتت هذه الشعوب واستكانت فهي تستحق هذا الذل والهوان والقتل والتدمير.
www.drabumatar.com