من نافلة القول أن الثورة السورية لم تستطع الوصول إلى أهدافها في الحرية والكرامة، وغرقت بالفوضى نتيجة الإدارة السيئة وغير الخبيرة للانقسامات الناتجة عن الرؤى الثورية المختلفة في داخلها، ونتيجة ظروف موضوعية أحاطت بالثورة. وهي إشكالية أكبر من قدرة المعارضة الحالية على حلها ذلك أنها ترتبط بموروث تاريخي يصعب تفكيكه والتخلص منه بسهولة، فالديمقراطية الحقيقية عبر فروعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل والسلوكية والمفاهيمية، بحاجة إلى تأسيس وترسيخ وترجمة في أرض الواقع العربي، بحيث تبدو مطالبة الثورة السورية بإنجاز تلك المهمة إما إستخفافاً بواقع المشكله وطبيعتها، وإما مساعي لتعجيز الثورة ودفعها إلى الإحباط.
غير أن ذلك لا يعني أن الثورة السورية سقطت نهائياً، بل يمكن القول أنها حققت جزءاً كبيراً من الأهداف الثورية العامة، عبر خلخلتها وتفكيكها لنظام الطغيان الذي يمكن الجزم أيضاً بإنتهاءه وتحوله إلى شكل من أشكال التنظيم المافياوي الذي تعرض لضربات عديدة تنذر بسقوطه بين لحظة وأخرى وإن استمرت بعض عقابيله.
كما ان الثورة السورية لا تزال تحتفظ بشرعيتها من حيث كونها ثورة ضد طغيان إتخذ في سنواته الأخيرة شكل إقطاع سياسي عبر تحالفه مع إحتكارات الثروة، وإهمال إحتياجات ملايين المحرومين وإغفال مطالب الأجيال الجديدة، التي ظهرت في فعاليات الثورة السورية كقوة مبادرة وعقلية مبتكرة لم تعد تتوافق معها عقلية الحكم السابقة.
ورغم كل محاولات رأس النظام الإعلامية بتشويه صورة الثورة وإحالتها إلى مجرد متطرفين، إلا أن ذلك كله لن يمحو عنه حقيقة انتماءه لعصر سياسي غابر لم تعد أدواته قادرة على التعامل مع اللحظة الراهنة، كما أن قدراته على تكييف سلوكه وتطوير أداءه معدومة، وخاصة وان الثورة قد أسهمت في تخليع وزعزعة ركائزه، فضلاً عن أنه أعطي الفرصة والوقت الكافي لفعل ذلك ولم يستطع الخروج من حقيقة كونه نظاماً عسكرياً عصبوياُ، وهو ما لا يمكن مقارنته بأنظمة استطاعت إدارة التحولات عبر هضم التغيرات وإدارة الأزمات والانقسامات بحرفية عالية والخروج منها سالمة كالنظام السياسي الصيني.
لكن المشكلة التي واجهتها الثورة السورية وفشلت بها هي كيفية التعامل مع التحديات التي أفرزتها التحولات، وهي إشكالية تعاني منها دول الربيع العربي كافة وإن كانت في سورية ذات طابع مختلف إذ لم يصر إلى المحافظة على قيم الثورة وأهدافها، وذلك سببه بلا شك، إفتقاد الثورة لإطار سياسي واضح يضبط مساراتها ويعمل على تطوير أداءها ويحميها من سياسة ردة الفعل على إستراتيجية النظام التي عملت على تحويلها إلى شكل من أشكال الحرب الأهلية.
أمام هذا الواقع، لا يمكننا القول بفشل الثورة السورية ونهايتها، ذلك أنها بالرغم من كل المثالب التي أصابتها، إلا أنها ، ومن نواحي عملية، تبقى البديل الوحيد والممكن، في ظل وضع سقطت فيه وتهاوت أسس وركائز النظام السياسي السابق، وتهاوت معها قدراته الأمنية والعسكرية، وصار من المستحيل إمكانية إعادة تأهيله، حتى لو اضطرت بعض الأطراف الدولية إلى التعامل معه أنياً من أجل مصالح راهنية، فهذا النظام، وفي محاولاته القضاء على الثورة، خلق لنفسه وللإقليم والعالم من المشاكل ما لا يمكن معها استمراره سوى لأجل محدد جداً.
ما الحل إذاً، لا حل سوى إقدام الثورة على إصلاح نفسها، من منطلق كونها نظام سياسي بحكم الأمر الواقع، وبالتالي فإنه يجري عليها ما يجري على الأنظمة السياسية، وعليه فهي مطالبة بالإصلاح ، سواء على مستوى سياساتها أو على مستوى مؤسساتها، وهذا يبدأ من تسليم قيادة الأمور لأشخاص مناسبين لإدارة المرحلة القادمة، بما تتضمنه ذلك من مفاوضات سياسية وإدارة ميدانية للقضايا العسكرية والمدنية داخل سورية. كما يتطلب ذلك إنشاء مؤسسات قادرة على إستيعاب التحولات التي تفرزها العملية الثورية، وترجمة أهداف الثورة وتبيئها في الواقع العملي.
لاخيار أخر على الأرض السورية، فقد سقط النظام، وسقطت منظومة القيم التي بنى حكمه عليها، وتخلخلت شبكة العلاقات الاجتماعية، وإذا لم تبادر قوى الثورة بملئ الفراغ فمعنى ذلك تحول سورية إلى أرض للفراغ لا يعلم أحد ما الذي ستتم زراعته فيها.