لم بعد الغرب يهتم كثيراً بخطاب التحرر الطالع من أرياف ومدن العالم الثالث، فلم يعد ثمة من يأسرهم ذلك الخطاب في تنايا الاجتماع السياسي الغربي، هذا الدور الذي كانت تمارسه يوما تيارات اليسار ونشطاء الحقوق المدنية والليبراليين، يبدو أنه اليوم صار يميل أكثر إلى الاستغراق والانهماك بما هو محلي، مشيحاً بوجهه، وبتعبيرات لا تخلو من الضجر، عن الأزمات خارج الحدود، لدرجة أنه صار عادياً أن تجد بين تلك التيارات من يقف ضد بعض الحراكات في العالم بحجة أنها فوضوية وغير منظمة وأصولية.
لن نكشف سراً إذا قلنا أن الغرب لم يعد يملك رفاهية الالتفات لغير قضاياه، فهو يعيش في أزمة تدفعه إلى الانشغال كلياً بقضاياه وتفرض عليه عدم الاهتمام بقضايا العالم الخارجي، طالما أن لا تأثير مباشر لها على عناصر حياته اليومية. لم يعد الغرب مهجوساً بتصدير نمط حياته ونظامه القيمي لأنه لم يعد أصلاً مبهور بذلك النمط والنظام، وثمة رعب أوضحته نقاشات البرلمانات البريطانية والأمريكية من أي محاولة لتحميل المواطن ولو قدراً ضئيلاً من دخله قد تزيد في التأثير على حياته.
في الواقع نحن أمام ما يشبه أزمة في إنتاج مشاعر وتعبيرات ما فوق محلية، من نمط تلك التي كانت تظهر في الغرب في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وكان يتشكل حولها جمهور واسع، ربما لا زالت هذه الظاهرة موجودة بشكل إفرادي لا يسمح المزاج الحالي بتطويرها ومدّها جماهيرياً والعمل على بلورتها على شكل تعبيرات وظواهر طالما استفادت منها شعوب العالم الثالث.
تفتقد الأزمة السورية لهذه الروح المحركة، مما يجعلها تفتقد لكل الإجراءات العملياتية اللازمة لتحريك تلك الأزمة ودفعها إلى سكة السياسة ونقلها تالياً من حالة الصراع الدموي والعبثي إلى مرحلة التفاوض الذي قد يشكل ضوءاً في أخر النفق، ولعلّ المعضلة في القضية انه لا مفر من دفع الغرب إلى تغيير إستجاباته، فطبيعة الصراع في سورية تفرض هذا الأمر، ذلك أنه في ظل وجود عالم مقابل لا تتحكم فيه الديمقراطية ورأي الأفراد، ينتعش تحالف الديكتاتوريات ويعمل على تغيير الوقائع وحرفها، وأحياناً توظيبها، لكي تخدم رؤيته. ويوظّف في سبيل ذلك قدرات وطاقات، تكون مواجهتها أشبه بإعادة تمثيل عملية الإنتحار بشكل متواتر، مما يحتم بالتالي الاستنجاد بالغربي بوصفه ممثلاً للقوة وقيّماً على منظومة القوانين الدولية.
الطرف الأخر، ممثلاً بالنظام وحلفاءه، يعمل ويجهد نفسه بمناورات سياسية وإعلامية، يحاول مخاطبة الغرب بلغته ويدغدغ عواطفه ويلامس مخاوفه، يعمل على ذلك وجيش من العلاقات العامة يصيغ له مفردات خطابه لتلك الجماهير، من يتابع تصريحات بشار الأسد ومقالات فلاديمير بوتين يكتشف هذا الأمر، ويوظف في سبيل ذلك مشاهير وقادة رأي ورجال دين نافذين في مجتمعاتهم، صحيح أن الخطاب مقبول أكثر لدى الرأي العام الغربي، ولكن ليس بوصفه مقنعاً، بقدر ما أن الغرب يحتاج، في أزمته المركبة، لمن يساعده في إزاحة أعباء قد يضطر إلى التورط فيها تحت ثقل وقعها الإنساني المؤلم.
هذا يعني انه يستلزم من المعارضة العمل بكامل طاقتها وعلى كل الجبهات، وإجتراح الحلول. الخطر المحدق بالثورة السورية يتأتى من نافذة افتقاد العالم حتى الحدود الدنيا من الاهتمام بالحالة السورية، إبقاءه عند الحدود الدنيا مكسب أني، فإدارة اوباما، وأي إدارة في العالم، بالنهاية تعمل وفق حساباتها التي قد تتحقق ضمن صفقات ومساومات وشروط معينة لا تملك الثورة السورية القدرة على منعها، والمتغيّرات في حراك دائم لا تتوقف، وأي متغير من شأنه تغيير المعادلات وحساباتها، أو قد يفرض إعادة حسابها بطريقة جديدة.