في أحدى زياراتي الإستكشافية لبعض المعالم التاريخية المغربية المتواجدة في مدينة الرباط، ساقتني الأقدار الإلهية ورغبتي الجامحة في التعرف على مسارات تواجد ومرور الإنسان إلى أحد أهم معالم المدينة إثارة وقوة، إنها قصبة الوداية نسبة لتواجدها على مصب واد أبي رقراق المطل على المحيط الأطلسي والتي سكنها الأندلسيون حيث رمّموا أسوارها واعتبروها دولة مصغرة لهم. إنها معلمة معمارية وحضارية مهمة تشهد على ثقل الوجود الأندلسي في المنطقة وفي منطقة شمال إفريقيا بشكل عام، وهو التواجد الذي أغنى الهوية المغربية المتعددة ثقافيا وسياسيا واجتماعيا وعلميا وساهم في تنشيط الحياة الحضارية المغربية إلى حد الاَن. هذه المقالة هي إشادة بهذ الصرح الحضاري المتعدد وهي شهادة في حق الإنسان وتاريخه وأفكاره وإسهاماته الحضارية وهمومه الوجودية.

عاش الأندلسيون بداية باسبانيا خلال بداية القرن السابع عشر وهي اَخر مراحل الصراع الذي خاضوه طيلة قرن كامل من الزمن (1502-1609) ضد الجهاز القمعي الإسباني فيما سمي بمحاكم التفتيش. وبسبب المشاكل العديدة التي سببوها للإسبان سواء السياسية أو الدينية، فقد انتهى الصراع بنفيهم كاَخر حل للتخلص من تواجدهم المزعج تاريخيا في أحد أهم نفود الإسلام قبيل سقوط غرناطة التاريخي. لكن نزوح الشتات الأندلسي إلى مناطق الجوار خصوصا المغرب، كان دائما ndash; بالنسبة للأندلسيين ndash; مجرد مرحلة لإستجماع القوى وترتيب البيت الداخلي ثم العودة إلى الفردوس المفقود ومحاربة الإسبان وتكوين الدولة من جديد. ولقد كان تواجدهم في المغرب ndash; من منطقة تطوان ومكناس وشفشاون والرباط وصولا إلى ثخوم مراكش وسهل سوس ndash; محطة مهمة في تاريخ الأندلسيين السياسي ومهمة أيضا في تاريخ تكوين الدولة المغربية الحديثة في شتى المجالات وعلى جميع الأصعدة.

لقد توالت الهجرات الأندلسية على المغرب في فترات مختلفة، ولعل أبرزها ndash; حسب الدراسات التاريخية- ثلاث فترات رئيسية وهي فترة العهد الوطاسي والعهد السعدي الأول ثم الثاني. ففي فترة العهد الوطاسي، كان المغرب يعيش ضروفا مضطربا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا بسبب الحروب وانتشار الأوبئة ما انعكس على ضروف استقرار الأندلسيين في المنطقة. أما الفترة السعدية الأولى، فقد عرفت انتعاشا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا مهما وانفتاحا سياسيا من طرف السلطة الحاكمة على الأندلسيين من أجل استدراجهم كقوة جهادية مهمة ضد الأطماع الخارجية. ثم جاءت فترة العهد السعدي الثانية، حيث استقر المهاجرون الأندلسيون في مصب أبي رقراق وتطوان حيث حاولوا تكوين كيان سياسي خاص بهم نتيجة الإضطرابات السياسية التي شهدها المغرب في هذه الفترة من جديد.

لكن ورغم تجربة المهاجرين الأندلسيين المثيرة إلى المغرب والتي حاولوا خلالها تكوين كيان سياسي وعسكري مستقل يستطيعو من خلاله فرض وجودهم كقوة لها وزنها في المنطقة، إلا أن هذا الحلم سرعان ما باء بالفشل بفعل عوامل عديدة أهمها: وقوف السعديين ضد استقلال الأندلسيين عن سلطة حكمهم، إذ حتى عندما تم اعلان استقلال الأندلسيين(1627-1642) كان هناك ولاء اسمي للسلطان السعدي. ووجود العياشي كقوة عسكرية جهادية لها وزنها بالمنطقة وتحفزه المستمر للإنقضاض على القصبة والرباط، جعل هؤلاء المهاجرين يلجئون إلى قوات مغربية كالسلطان السعدي أو إلى قوات أجنبية كالقوات الإنجليزية لحمايتها. ثم نظرة القبائل المجاورة العدائية لهم، إذ لم تكن ترتاح لهؤلاء المهاجرين الذين كانت تنعتهم بquot;نصارى قشتالةquot; وكانت تتحين الفرصة للإنقضاض عليهم ما جعل الأندلسيين محاطين بأعداء داخليين غير متوقعين. وكذلك تحذير الدول الأوروبية من التعامل معهم كسلطة شرعية، إذ كانو ينعتونهم بالقراصنة وبالتالي وجب مراوغتهم وتصفيتهم.وأخيرا عدم رغبتهم في الإستقرار النهائي بالمغرب إذ كانو يحلمون بالعودة كحل مصيري ما جعلهم ينؤون عن بناء مقومات دولة مستقرة لهم.

وبالرغم من فشل المهاجرين الأندلسيين سياسيا في الإستقلال بدولة تحفظ خصوصيتهم وكيانهم الذاتي، إلا أنهم استطاعوا أن يبرزوا كقوة حضارية مهمة تفاعلت مع محيطها بل تفوقت في العديد من المجالات العلمية والإجتماعية والإقتصادية وجعلت من مرورهم الحضاري بديار المغرب ملحمة حضارية لا زالت تزخر بالغنى والشموخ الحضاري. فلقد ابتكروا تقنيات فلاحية جديدة وبرعوا في ميادين الطب والفلك والهندسة والحساب والترجمة واللغة والفن وأدخلوا علومهم هذه إلى مكتبات المغرب وتبوؤوا مكانة اجتماعية مرموقة في هرم التراتبية الإجتماعية المغربية. واليوم أصبح الثقافة الأندلسية معلمة حضارية إنسانية ساهمت في نمو الإنسان ورفاهيته عبر تواجدها في المغرب وعبر انصهارها مع ثقافات المغرب المتنوعة والعريقة جدا.