غاضبون، غاضبون، غاضبون.
يهود العراق بأجمعهم غاضبون. يهود العراق الذين عاشوا حكم البعث في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي غاضبون ويعصرهم الألم. جراحنا التي التأمت انفتحت من جديد.
أنا استشيط غضباً. أصدقائي في نيويورك ولوس أنجلوس، في تورنتو ومونتريال، في لندن وأمستردام، في تل أبيب ورامات غان وأور يهودا وبتاح تكفا غاضبون من احتمال رجوع ما يسمى ب quot;الأرشيف اليهودي العراقيquot; إلى العراق.
لقد سرقوا حياتنا، سرقوا طفولتنا، سرقوا ممتلكاتنا وسرقوا ذكرياتنا. ذكرياتنا غمرتها المياه في سراديب مخابرات صدام. وسال الحبر الأزرق من صفحات ذكرياتنا في الماء النتن كما سالت دماء الكثير من أهلنا وأصدقائنا. تآكلت صورنا، تشققت أوراقنا، تمزقت كتبنا. أخذ جلاوزة البكر وصدام، ناظم كزار وعلي وتوت أنفاس أخوتنا، عذبوهم وأعدموهم، اختطفوهم وقتلوهم. لم يكتفُ بذلك وسرقة ممتلكاتنا بل سرقوا ما كتبنا. سرقوا تلمودنا ومصاحفنا، سرقوا مخطوطات حاخامينا، حتى استولوا على ملفات مدرستنا.
لقد أعدت صياغة المثل العربي quot;ضربني وبكى سبقني واشتكىquot; إلى quot;سرقني وبكى هجّرني واشتكىquot;
الحكومة العراقية تريد أن تعيد quot;لعراق بلا يهودquot; ما سرقه نظام صدام من يهود العراق. أي مسخرة هذه؟ هل بعد أن اضطهدتنا، طردتنا، قتلتنا، مزقتنا، استولت على ممتلكاتنا الحكومات السابقة، تريدون الآن أن تسلبوا ما تبقى من تراثنا، من ذكرياتنا؟ هل تريدون إهانتنا؟ هل تريدون أن تشتركوا في سرقة الغنيمة؟
معظم ما يتضمن الأرشيف استولى عليه فاشيو البعث من المعابد اليهودية التي كانت مغلقة، من بيوتنا التي أغلقناها حينما تركنا العراق، من مدرستي فرنك عيني وشماش في منتصف السبعينيات حينما أممت واطلق عليها مدرسة النظامية، من كنيس مئير طويق في عام 1984. لا يهمنا انهم دنّسوا بيوتنا و سرقوا كل ما فيها من ممتلكات لن نستطيع أن نستعيدها، ولكن الكلمة المكتوبة هي ملكنا إلاّ اذا دمرت. ممثلو العراق يقولون أن الأرشيف هو quot;جزء من هويتنا وتراثناquot;. ولكن الغاء الهويات مستمر في العراق، التغيير الديموغرافي مستمر، محو الكلمات العبرية وتحويل مزاراتنا الدينية إلى مزارات إسلامية مستمر. الطائفية البغيضة تحصد الأرواح يومياً. يا جماعة، حافظوا على ما تبقى لكم واتركونا مع ذكرياتنا. إن استرجع العراق هذا الأرشيف، من يضمن لنا إن لا يقوم المتطرفون الإسلاميون يوما ما بحرق كتابات quot;الكفارquot;.
الكثير من القراء يعرفون الآن قصة quot;الأرشيفquot; - بعد إنقاذه من سراديب مقر مديرية جهاز المخابرات العراقية في المنصور، التي غمرتها المياه. لقد كتب الكثير عنه في السنين العشر الماضية. بعد اكتشاف الأرشيف في ربيع 2003، تم شحنه إلى الولايات المتحدة لتأهيل ما يمكن تأهيله. ضم هذا الأرشيف اكثر من 2700 كتاب وعشرات الآلاف من الوثائق التي تم ويتم تصويرها وترقيمها. الكثير من المعلومات المكتوبة بخط اليد بالحبر الأزرق أو الأسود قد تلاشت بسبب المياه. في الأرشيف الوطني في واشنطن يعرض الآن جزء ضئيل من الكتب والمخطوطات والوثائق التي تم ترميمها. الحكومة الأمريكية تخطط لإعادة الأرشيف للعراق في منتصف 2014 حسب الاتفاق الذي وقعته مع الحكومة العراقية.
المسألة هل هذا اتفاق قانوني أو أخلاقي ؟ هل يحق لأي حكومة أو سلطة أن تعيد ممتلكات مسروقة وملفات شخصية لغير أصحابها أو لممثليهم؟ شبّه البعض أنها كإعادة الحلفاء لوحات فنية سرقت من يهود اوربا، من قبل النازيين، إلى المانيا. ولكني أقول، بعد رؤيتي لبعض ما يتضمنه الأرشيف من أن إعادته افظع، لأننا لا زلنا أحياء.
عندما اكتشفت جنيزه القاهرة في القرن التاسع عشر، كانت هذه المخطوطات تعطي صورة مفصلة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية ليهود الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في القرون الوسطى. (مع العلم أن معظم هذه المخطوطات هي موزعة بين جامعات كمبريدج، المدرسة اللاهوتية اليهودية الأمريكية، مكتبة جون رايلاندز في مانشستر). لكن الأرشيف اليهودي العراقي يتحدث عن حياتنا نحن الأحياء أو/ وعن حياة أهلنا. انه التاريخ القريب، انه ملكنا ولا يجب أن نفرط به ليقبع في مكتبة أو متحف في عراق خال من اليهود ولا يسمح لليهود بزيارته، خصوصا أن معظم يهود العراق يعيشون في إسرائيل.
فتحت امس أول ملف تحت تصنيف شماش (مدرسة شماش الإعدادية) وفوجئت باسمي على الملف الأول ndash; خضر البصون كيمياء الصف الرابع العام. هكذا وفي لحظة رجعت لأربعة وأربعين عاما للوراء، للسنة الدراسية 1969-1970 حينما كنت مدرسا للكيمياء للصف الرابع. كنت في السنة الأخيرة في كلية الهندسة الكيميائية في جامعة بغداد، حين استدعاني مدير المدرسة المرحوم الأستاذ عبد الله عوبديا وقال quot;اني أريد مساعدتكم انتم خريجو شماش، لقد تركنا المدرسون المسلمون والمسيحيون بعد تعرضهم للضغط من الأمن أو لخوفهم من التدريس في مدرسة يهودية. اني اعتمد عليكم لتدريس بعض المواضيع. فأجبته: أنا في السنة النهائية وسأحاول قدر الإمكان أن اجد الوقت لذلك. كانت كلية الهندسة في باب المعظم والمدرسة في العلوية الجديدة قريبة لبيتنا. تم الاتفاق أن ابدأ بتدريس الكيمياء باللغة الإنكليزية للصف الرابع لإعداد الطلاب لاجتياز الامتحانات البريطانية (جي.سي.اي) في نهاية الصف الخامس. تكفلت بتدريس أربعة حصص دراسية (ثلاث ساعات أسبوعيا) ndash; حصتان يوم الجمعة (عطلة أسبوعية في الجامعة) وحصتان خلال الأسبوع بعد انتهاء اليوم الدراسي في الكلية. سأتحدث عن بعض من هذه الذكريات في مقال آخر.
فتحت ملفاً آخر لأرى أسئلة امتحانات اللغة الإنكليزية والرياضيات التي اجتزتها في القبول للصف الرابع الإعدادي في أيلول 1965 وملف أخر لأرى المرحوم سمير قشقوش صديق الطفولة الذي ذبح مع عائلته في بيته في 1973. رأيت ملفات أختاي وقد أزالت المياه الحبر الأزرق، الذي كان شائع الاستعمال في تلك الفترة، ومعه الكثير مما تضمنته. رأيت خط والدي على احد الاستمارات ورأيت الكثير الكثير مما خطته المرحومة والدتي والتي كانت قد عملت في إدارة المدرسة زهاء عشر سنوات. هناك المئات من الملفات الشخصية التي تمثل حقبة من اهم الحقب في حياتنا. لم أتحدث هنا عن آلاف الكتب والكتابات الدينية التي تعود لكل يهود العراق. تحدثت عن شيء بسيط - ملفات مدرستي.
من المضحك المبكي أن يدعي مسؤولون في وزارة الآثار العراقية أن هذا تراث عراقي. هل محمود أو عباس أو عثمان مهتمون بالاطلاع على ملفاتنا وشهاداتنا، أوراق الامتحانات، الجوائز التي حصلنا عليها، قائمة الكتب الدراسية أو قرارات مجلس الانضباط، أو....... ؟ لكن لنا ولشركاء حياتنا ولأولادنا وأحفادنا الذين قصصنا لهم عن مدرستنا فهو تاريخ حي، كل ورقة تعني شيئا لنا. كل أصدقائي يعبرون عن نفس الشعور.
هناك ضمن المخطوطات التي وجدتها سجل الزواجات 1947-1949 حيث استطعت إن اجد تسجيل زواج والدي quot;سليم بن خضوري بن عبودي بصونquot; ووالدتي quot;مريم بنت أبراهام بنت يعقوب ملاquot; مكتوبة بالخط العبري الذي كان متداول في العراق والمشرق والذي انقرض الآن. هل من المعقول أن يعاد هذا السجل إلى المكتبة الوطنية العراقية ؟!!
الأرشيف اليهودي العراقي ليس قطع اثريه طمرت لآلاف السنين تعود لعراق الكل. ليس قيثارة سومرية، أسد بابلي، طاق فارسي، تمثال عباسي، مدفع عثماني. هذا ليس قبر نبينا حسقيل (الكفل) الذي اصبح مزارا شيعيا. هذه ليست قطعة ارض الصحفيين التي اجبر طارق عزيز والدي أن يتخلى عنها له، هذه ليست قطعتي البساط الإيراني الذي تركناها في البيت حين اغلقه والدي في صيف 1973 وليست لعبة أختي التي تركتها على فراشها عندما غادرت العراق.
هذا هو تلمودي الذي سرق من كنيسي، هذه كتبي الدينية وكتابات حاخاماتي التي سرقت من معابدي، هذا سجل زواج آبائنا وأمهاتنا، هذه ملفات مدرستي - تعود لي ولأقاربي ولأصدقائي ولطائفتي، تعود ليهود العراق. لا زلنا أحياء ولم ننقرض. لا نريد أن يخزن تراثنا في المكتبة الوطنية العراقية ولا في المتحف العراقي، في عراق بلا يهود. نريد أن يكون باستطاعة أولادنا وأحفادنا أن يتطلعوا عن قرب، ولو من خلف الزجاج، على تراثنا وان يعيشوا ذكرانا - أن يشعروا بنبض الحياة التي عشناها في العراق. اذا أراد الباحثون العراقيون أن يطلعوا على بعض المواد فليس عليهم إلاّ أن يفتحوا الملفات المرقمة ويدرسوها من خلال الأنترنت. أما لنا فهذه الكتب والمخطوطات والملفات ستهمس ثم ستتكلم ....
نشكر كل من ساهم من المسؤولين العراقيين في السماح لخروج هذا الأرشيف من العراق لإنقاذه. ونشكر الحكومة الأمريكية ومؤسسة الأرشيف الوطني للجهود العملاقة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتأهيل ما يمكن تأهيله ولتمويل هذا المشروع الإنساني، ولكن بالله لا تعيدوا تاريخي.
للحكومة العراقية فرصة ذهبية لمصالحة تاريخية مع يهود العراق. عليها أن تتعالى على كبريائها وأن تتخلى عن المطالبة بإعادة ما سرقه نظام صدام من يهود العراق. إن هذا الأرشيف لا يمثل سوى جزء ضئيل مما تركناه في بيوتنا، في كنائسنا، في مدارسنا. هناك فرصة أن تشفي بعض من جراحنا وأن تعيد لنا ونحن أحياء بعض من ذكرياتنا. لكن إن أصّرت ونجحت الحكومة العراقية في استعادة هذه الممتلكات الشخصية المسروقة ليهود العراق فستكون شريك فعلي في سرقة صدام.