في وقت متزامن، تصدر وسائل الاعلام، مشهدان هما الأقرب إلى الفضيحة: مقاتل يمسك رئة قتيل من نفس موطنه، يقضمها بأنيابه، ويتوعد بالتهام المزيد من القلوب والأكباد البشرية. وآخر ينحر جندي في وسط عاصمة بلاده، ويقف لالتقاط صورة تذكارية له وهو ممسك بسكين وساطور في يد، بينما دم القتيل يصبغ اليد الأخرى، وتسيل القطرات من بين الأصابع.

وحوش بشرية منفلتة، باتت تقدم للعالم صورة العربي والمسلم في الألفية الثالثة، وترسخ في الأذهان أنموذجا لنوع من البشر يراهم العقل الغربي غير جديرين بالحياة.
لكن المشهد لم يتوقف عند إلحاق الهزيمة بصورتنا هناك، فالإطار الذي تنحشر فيه الصورة في داخل المنطقة، بات هو الآخر مفككا وهشا إلى درجة تثير الرثاء، وحتى إن لم يكن قد وصل بعد إلى أدني درجاته، فإن الأمر المؤكد، أنه ينزلق بسرعة مذهلة ويقترب من النهاية.
هذه هي المحصلة التي يخلص إليها المراقب للوضع العربي في صورته الراهنة. ذلك الوضع الذي لم يكن أحد في أشد حالات تشاؤمه، يتصور أن يتهاوى إلى هذا الحد، وان تتحول الاحلام الكبيرة التي رهنت أجيال عديدة من أبناء هذا الوطن أعمارها لأجلها، نحو مسار معاكس، والى الدرجة التي يصبح فيها وقف الانهيار هو كل المأمول.
هل كان ذلك بسبب انخداع الناس بوعود سخية، كانت أكبر في النهاية من قدرة الذين قدموها؟ أم أن الأخطاء التي ارتكبت طيلة العقود الأخيرة، كانت عصية على كل محاولة للعلاج؟
في كل الأحوال وصلنا إلى هذه النتيجة، وجاء المشهد على هذا النحو المفجع، بلاد تتفكك، ونزاعات مسلحة تشتعل، واحتراب أهلي ينذر بسيناريو كارثي، وتأجيج لنيران طائفية مخيفة، ومستقبل بالغ الغموض، وقادة جدد أكثر ارتباكا من السابقين، ليس لديهم أي رؤية للتعامل مع الأوضاع الحالية، ولا مع السيناريوهات المحتملة في حال وصول الأمور إلى نقطة اللاعودة، وبلاد معلقة على درجة إيقاع يتم ضبطه بأصابع من خارج الحدود، وبشر وصلت الأحوال بغالبيتهم الى درجة مزرية، ويعيشون في رعب، ويرتجفون خوفا من أن تتطور الأحداث لتلقي بهم الى ما تحت القاع.
أي مشهد عبثي هذا؟ وأي مأساة تلك؟
هل وقعنا في الفخ فعلا، مثلما ورد في أحد أفلام عادل إمام؟
تلك الوقائع العبثية المريعة الذي تتابع أحداثها أمام أعيننا، تؤكد أن الأمور الذي أوصلتنا الى هذا الوضع لم تأت بالصدفة. ثمة انحدار هائل جرى في بطء، ونحن كنا عنه غافلين. وإلا كيف يمكن تفسير كل هذا التراجع الذي شهده العالم العربي خلال سنوات قليلة حتى اقتربت عدد من دول المنطقة بهذه السرعة من حافة تصنيف الدول الفاشلة؟rlm; وكيف يتم ذلك، بعد تلك السنوات الطويلة التي انتظر الناس فيها اعتدال الحال؟ وبعد كل تلك الأحلام التي تم ضخها ليلا ونهارا، في خطابات الساسة ونشرات الأخبار، وافتتاحيات الصحف وأغاني المطربين؟
الآن، بات علينا أن نواجه الواقع بكل تفاصيله، تلك التفاصيل التي تكمن الشياطين فيها، والتي تحضنا على فتح أعيننا عنوة، كي ندرك أن ثمة أوهام كثيرة أغرقتنا، وأكاذيب انطلت علينا وتعايشنا معها زمنا طويلا، واستعذبنا خداعها، بل وكنا نخترع لها الأعذار إن تأخرت وعودها.
في النهاية، بدا المشهد جليا، أكثر وضوحا من قدرتنا على استيعاب تفاصيله، أما الذين كانوا يتصدرونه فكأنهم كانوا آخر من يعلم: أجيال بأكملها ربطت الأحزمة حول البطون، حشت عقول صغارها بشعارات النهوض والعزة والكرامة، وحين انحشرت أعداد منها في ظلمة أقبية السجون احتملت، كي تشرق شمس أفضل على ربوع الوطن، ها نحن نرى الاحلام وهي تتفت مثل قطع البسكويت الهش، ليست الاحلام فقط ، بل حتى البلاد الراسخة، التي ظل بعضها موحدا منذ القدم، ها هو يبدأ أولى خطوات الانهيار، وها هو أنينه يتصاعد، بينما الابناء يقفون مكتوفي الايدي، لا يعلمون ما الذي ينفع لوقف هذا التداعي؟
لقد وقعنا فعلا في الفخ!
هذه هي الحقيقة التي لن نستطيع غض النظر عنها، ولا الافلات من قسوة نتائجها، ولكن المصيبة الحقيقية هي أننا لم ندرك بعد أن الأمر لم يعد حفرة وقعنا فيه وانتهى الأمر، بل أن هذا الفخ بات يحيط بنا من كل جانب، والمصيبة الأكبر هي أننا أصبحنا، نحن الأسرى، الذين يدورون فيه، نتقاتل بضراوة في الحيز المتاح لنا داخله ضد بعضنا، يحاول كل مأسور التخلص من الأسير الآخر، بينما الذي أوقعنا في هذا الفخ، يتابع ما يجري ويقيس مدى النجاح.
الآن، أيها السادة، نحن الأشقاء الأعداء، نحن الذين نحكم العصابة على عيوننا بأيدينا، وندور لنشرب دماءنا نحن، بدلا من أن ننتبهه الى أن الدور قادم، على من سيظن أنه قد نجا.