لم يكن هؤلاء، الذين خرجوا بالملايين الى ميادين المدن العربية، مدفوعين بحماس عارم وأمال في الغد ليس لها حدود، يظنون أن الأمور سوف تنقلب إلى نقيضها حتى هذا الحد، وان تدفع التطورات المأسوية اللاحقة أعدادا غفيرة ممن شاركوا في التظاهرات وهتفوا بسقوط الأنظمة السابقة، الى الشعور بالندم، وإبداء التفكير في جدوى كل ما جرى، حتى أن بعضهم بات ينخرط في التظاهرات المناهضة للقابضين على الحكم.
هناك حقيقة باتت تكشف عن نفسها، وهي ان خيبة أمل هائلة تبدو الآن على ملامح الوجوه، ليس تجاه أداء هؤلاء الذين اختطفوا جهد الثوار الحقيقيين، بعد أن ركبوا موجة الثورة وباتوا يوجهونها لصالح الجماعات والعشائر، ولكن ايضا تجاه فصائل واسعة في المعارضة، كان أداؤها مخيبا للآمال، حالة من اليأس وشعور عارم باللا جدوى، تجاه ما يجري، بعد ان تحولت ثورات الربيع العربي إلى كابوس حقيقي يلمسه المواطن العادي، حين يمارس ابسط انشطة حياته، فيرى حالة مروعة من الانفلات الامنى، وانهيار لمقومات الدولة مع مرور كل يوم، ويستمع إلى هؤلاء الذين تصور ان جباههم تشع بالنقاء وأن سريرتهم متخمة بالتقوى وهم يمارسون الكذب باصرار، يطلقون الوعود، فلا يصل منها للمواطن سوى الاكاذيب. عبارات مخدرة تخرج من بشر يفتقدون إلى أدنى درجات الابداع.
وفيما كان ينبغي ان يتم التعامل مع الأوضاع بالغة الصعوبة التي أوجدتها الاحداث المتلاحقة لموجة الربيع العربي، بعقلية منفتحة ومبدعة، قادرة على ادارة الازمة والتعاطي معها بكفاءة عبر ابتداع حلول مبتكرة وغير تقليدية، بدا أن ذلك كان أكبر بكثير من قدرات الحكام الجدد، وبدا أيضا أن المعضلة الحقيقية تكمن في ان الذين قبضوا على زمام السلطة فجأة، لم يكن لديهم اي فكرة عن كيفية ادارة الدولة والتعامل بطريقة خلاقة مع المتغيرات التي حدثت في اعقاب تلك الثورات، فكل الأهداف التي استمات هؤلاء لتحقيقها تم اختزالها في الامساك بمفاصل الدولة والاستئثار بكل امكاناتها وابعاد الفصائل الاخرى بما في ذلك الثوار الحقيقيين، عن المشاركة في ادارة الدولة، أو الاسهام في صناعة مشهد للمستقبل يتطابق من النموذج الذي حلم بتحقيقه كل الذين من خرجوا الى الميادين ثائرين على أنظمة شائخة.
فهل ما جرى في أعقاب تلك الثورات كان يحمل أية بشارة على الاقتراب من تحقيق الاحلام؟ وهل استطاع الجدد الذين امسكوا بتلابيب السلطة أن يقدموا نموذجا قادرا على بث روح الامل في نفوس الناس؟
ان ما جرى كان هو العكس تماما، مجرد مجموعة بديلة لا تملك رؤية، وليست لديها القدرة على إدارة منطقة محدودة المساحة، لا الاستفراد بدولة واقصاء كل الكفاءات التي تذخر بها بعيدا، كل التطورات التي تابعها البشر لم تكن غير الخروج من فشل، للدخول في حلقات جديدة أكثر فشلا، يتم عبرها هدر امكانات البلاد، والانزلاق بها من سيء إلى اسوأ. وما ينطبق هنا على بلد، ينطبق على الاخرى، كلهم في الهم شرق، حتى لو صدق البعض الكلام الذي لا تزال بعض الحكومات الغربية المعجبة بثورات الربيع العربي، فالواقع يقول غير ما يتردد منهم، والحقيقة المؤكدة بعد كل ما جرى، هي أن هؤلاء الذين باتوا بين المطرقة والسندان هم اكثر من يدرك الآن حجم المأزق الذي انحشروا فيه، كلهم يدركون ان الانظمة التي ثاروا عليها على الرغم من كل مساؤوها كانت اقل بشاعة من تلك التي جاءت بسوءاتها وقررت فرض خيباتها على البشر رغما عن انوفهم.
واقع تراجيدي بكل المقاييس حيث الأسى مجسدا، وحيث الضحك يماثل البكاء، وحيث أحلام البسطاء تجهض ويتم ممارسة أشد أنواع الكذب عليهم جهارا نهارا، وكأنه ليس هناك من سبيل أمام البشر المتعبين غير أن يتعايشوا مع الديكتاتورية والفساد والقمع، أفضل لهم من الدخول مجددا في مغامرة مجهولة لن يأتي لهم في أفضل الأحوال إلا بنظام أشد قمعا وفسادا.
فهل هذه هي نتائج الثورة التي انطلقوا لأجلها، يبيتون في الميادين ويرددون الشعارات ويغنون للغد الاجمل؟ هل هذه هي الثمار التي حصدوها في نهاية المطاف؟ وهل يتحول الأمر إلى هذه الدرجة المفزعة، بعد ان كانت الامال متقدة؟
تلك هى الاسئلة ذات المذاق المرير، وتلك تداعياتها الأكثر غرابة من الخيال.