كان العجوز مجيد العبيدي، يلازم شقته الصغيرة في أوبسالا، المدينة الكبيرة المزدحمة في السويد لا يخرج منها حيث الثلوج تحاصر بيته الصغير. كان يخشى السقوط فيكسر منه عظم لا يلتئم كما حصل لصديق له فعجل في موته. كان يلازم التلفزيون يقلب في قنواته يحاول عبثا سماع خبر طيب عن بلده العراق الذي فارقه منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً. شاهد رجلاً يقاربه في السن، بل خيل إليه إنه من جيله، ويكاد يعرفه، يتحدث من بغداد إلى مذيع ملتح وعلى جبهته طمغة. كان البث على الهواء مباشرة ولم يلحق عليه مقص الرقيب: كان الرجل يقول بحرقة: لماذا لا تعيد إذاعتكم بث صوت بلبل الإذاعة بدلاً من هذه البرامج الدينية التي صارت تفرق الناس ولا توحدهم؟ حتى الأذان لديكم صار وفق المحاصصة الطائفية! أرحمونا، خلصونا من هذا اللغو السياسي و الوعود الكاذبة. أكفهر وجه المذيع الذي كان يتحدث بلغة منبرية، فقطع كلامه واتجه إلى متحدث آخر! ألقى العجوز مجيد جهاز التوجيه من يده، ونهض إلى النافذة يطل على الأفق القاتم الملبد بغيوم سود، ثمة ريح تصفع الأشجار فتتضارب أغصانها وتتطاير الأوراق الصفر مؤذنة بحلول خريف بارد سيزيد منفاه وحشة.

رأى طيوراً سود تختلط بنوارس بيض تحوم محتدة فوق أشجار الغابة المجاورة كأنها قلقة أن أعشاشها وطعامها سيختفي قريباً تحت طبقات سميكة من الجليد. فجأة بزغ له من بينها ذلك البلبل البغدادي القديم! لسنوات طويلة كان كثير من العراقيين يستيقظون صباحاً على صوت بلبل يغرد من الراديو في البيوت، والمقاهي بصوت ساحر غريب، كان يجعل البلابل المتراقصة بين النخيل والتين والأعناب في حدائق البيوت وعلى أشجار الطرقات والساحات توقف مرحها وشدوها وعناقاتها العاطفية محاولة التعرف على هذا البلبل الغريب الذي جاء ينافسها بصوته العذب الصافي الفريد، كيف صار يحتل آذان العراقيين بعد أن كانت هي قد احتكرتها بأنغامها وشدوها مذ وجدوا على هذه الأرض، صارت البلابل قلقة معذبة وهي ترى العصافير والغربان متشفية بها فأخذت تغادر أعشاشها مبكرة لتقرأ تحية الصباح على العراقيين، قبل بلبل الإذاعة!

بعض من يسمع هذا البلبل يعتقد إنه بلبل جاء من أساطير بغداد القديمة، حيث الديكة تنشد شعراً، والطواويس تمثل دور السلاطين، فتأمر وتنهي بريشها المشهر بزهو وخيلاء. فهو أيضاً ذكي، متفائل،عاطفي، معمر، لا يمرض، وربما لا يموت،يأتي من البساتين والضفاف ويدخل الإذاعة كل صباح لا يخلف موعده لينقر الميكرفون ويؤدي أغنيته الفرحة للعراقيين ويمضي، يتلوه صوت رخيم لمذيع كأنه البلبل أو شقيقه،يقول: طاب صباحكم! شاعت وانتشرت حكايات وتعليقات كثيرة حوله، قال بعض، إنه بلبل عراقي أصيل نادر، وكل راح يحاول أن ينسبه إلى منطقته، بينما قال آخرون إنه بلبل إنجليزي، وإنه يقيم في بيت الملك، يطعمه على مائدته، وإن الوصي ونوري السعيد يسقيانه الخمرة معهما في الليل ليسكر العراقيين بصوته في النهار، فيسهل قيادهم! وغيرها من الحكايات التي يجب، على أي حال، أن يمزجها العراقيون بالسياسة! قلة فقط تعرف أن هذا البلبل هو مجرد تسجيل أهدته إحدى الشركات اليابانية للإذاعة العراقية بعد أن اشترت منها مجموعة من الأجهزة الإذاعية! ربما يتذكر العجوز مجيد إنه أحدهم، بل هو أحد أعضاء العصابة الظريفة التي استعملت البلبل في لعبة خبيثة لا تخلو من طرافة!

وكيف أنسى؟ كنت مع اثنين من زملائي نعمل في الإذاعة، أوهمنا المحاسب وهو رجل بسط نزيه طيب، سريع الثقة بالناس، أن بلبل الإذاعة المحبوب، حقيقي، وحي يجب أن يرزق بسخاء، ويدلل! صرنا نقدم للمحاسب كل شهر قائمة بمصاريف طعامه وشرابه وعلاجه! وهل يستطيع المحاسب أن يشك في كون البلبل حقيقياً وحياً نشيطاً،وهو له كل هذه الشهرة والسمعة الطيبة بين الناس ودوائر الحكومة أيضاًً؟ لم تكن قائمتنا الحرام بمبلغ كبير، كانت فقط يما يكفي لجلسة شراب في بار ليالي الأنس، وعشاء سمك مسكوف على شاطئ دجلة،ولمرة واحدة في الشهر،فقط لا غير، ننهيها عادة بالدعاء أن يحفظ الله البلبل ومحاسب الإذاعة النبيل الكريم،ودولتنا العتيدة!

لم يكن المحاسب يكتفي بصرف مبلغ الدينارين أو الثلاثة أحيانا في الشهر،بل يتلوها بقوله: (عاشت ايديكم! شلون ربيتوا هالبلبل الطيب الفنان، الله يحفظكم ويحفظه، مونس العراقيين، ومحلي صباحهم)
ويرد عليه صاحبنا المدبر للعبة كلها( ويحفظك مولانا، ويحفظ الإذاعة، ومليكنا المفدى).
صرنا إذا ارتفعت تكاليف مشروباتنا نرفع رقم قائمة أسعار طعام وشراب بلبلنا العظيم. وقد تهيأنا للطوارئ فإذا قال المحاسب؛ أن مصاريف البلبل كثيرة يكون الجواب جاهزاً quot; إنه بلبل قادم من اليابان،طعامه خاص، وشرابه خاص، وطبيبه خاص، باهظ الأجر!quot;

جلبنا قفصاً من الجريد، وضعناه في زاوية من حجرة إدارة الأشرطة، فإذا دخل المحاسب،أو مدير الإذاعة لو دفعهم حب الاستطلاع أو حتى وشاية ما؛ مستفسرين عن البلبل سنهب للقول على الفور وبصوت واحد( لقد طار البلبل، نسينا باب القفص مفتوحاً، واللعنة على حر بغداد، لم يجعلنا نستطيع إغلاق النوافذ) ونشرع في الركض هاربين بحجة البحث عن البلبل، ولا ننسى أن نبقى أحدنا يواصل بكاءنا وفجيعتنا، لفقدنا هذا البلبل الذي صار أحد أركان الإذاعة، وبغداد الزاهية.
لعبة محكمة، وما ألذ العرق الزحلاوي و المستكي في الليل ممزوجاً بتغريد البلبل الصباحي!

لسنوات كنا نرقص منتشين داخل حلم مرح نشرب العرق ونأكل المسكوف مرة في الشهر على حساب بلبل الإذاعة، الذي ظل دؤوبا على الاستيقاظ فجراً، لينعش أهل العراق بصوته العذب الحنون فيشمون فيه رائحة ورد الجوري والقداح ممزوجة بنكهة أولى خيوط الشمس المنتشية وهي تطل على وجو العراقيين الضاحكة. كنا نبرر فعلتنا أن سرقتنا صغيرة بسيطة، ونقول ليت السرقات في الدنيا اقتصرت على هذا الحد البسيط الظريف! فهم لو سألوا أي عراقي كم يساوي هذا البلبل عندك؟ لقال على الفور وزنه مع قفصه ذهباً، ونحن حتى اليوم لم نختلس ذهباً،وزن ريشة منه! ثم إننا كنا نعتني بهذا البلبل، ننظف ونجلو اسطوانته كأنها هي عشه وهو مختف ببراعة ساحر داخلها! أتذكر ذلك جيدا! كان ذلك ليلة يوم الأحد،13 تموز 1958، في ذلك اليوم استلمنا مصاريف البلبل، أعني مصاريفنا للشراب والطعام في بار ليالي الأنس! لم نكن نعلم أن البلبل صباح ذلك اليوم كان قد أدى شدوه الأخير، وأن جلسة طعامنا وشرابنا على حساب بلبلنا الطيب هي العشاء الأخير، له ولنا. في صباح اليوم التالي لم يسمع الناس صوت بلبلهم. سمعوا قعقعة هائجة في الراديو، ثم وشوشة وطرقات حادة، وجاء الصوت هادراً:

(الله أكبر فوق رأس المعتدي، الله....الله أكبر ). نشيد رصاصي صاخب انحدر من الراديو كسيل جارف. وصوت غليظ يذيع ما أسموه البيان الأول للثورة! امتلأت شوارع بغداد بجموع من البشر، تهتف وتصرخ، وأناس يتراكضون؛ يسحلون جثة، ثم جثة أخرى، وأخرى يركضون خلفها لتطيح تحت سكاكينهم وهراواتهم وحبالهم. أصوات هدير ورصاص ودخان ثم اختفى صوت بلبل الإذاعة إلى الأبد! لم يعد الناس يذكرونه، شغلتهم أحاديث السياسة، وقد اختلفوا وتناحروا وتفجرت في الشوارع دماء وصرخات وفرت العصافير والبلابل بعيداً إلى أعالي الأشجار. رأيت بأم عيني غربانا تنعق قريباً من جثث لبشر رميت قريباً من مسالخ الحيوانات! لم يعد الناس يذكرون البلبل الغريد، لا في البيوت ولا في المقاهي، بعضهم صار يتحاشى الحديث عنه خشية أن يحسب على العهد القديم. كنت لا أزال أعمل في الإذاعة، وكانت قد مرت أربع سنوات على اختفاء البلبل؛ عندما وصلت إليَّ رسالة قصيرة من رجل ربما هو كهذا الذي سمعت صوته قبل قليل يقول فيها ( تلج في قلبي هذه الأيام أحزان كثيرة، لكني أردت أن أسأل فقط عن أحد هذه الأحزان: بلبل الإذاعة، أين هو؟ لم لا تعيدونه؟ لماذا طويتموه،بالله عليكم أعيدوه، عله يمنحنا لحظة أمل،أو حتى نفحة واحدة من رائحة الماضي الحزين) هزتني الرسالة،قررت أن أعمل على أعادته للشدو، دون أن يخطر على بالي استغلاله هذه المرة في الشرب والأكل على حسابه، فقد كنت قد كبرت بعض الشيء، وصرت استهجن فعلتنا في الاختلاس مهما كانت صغيرة. لكني لم أعد حراً في تنظيم البرامج، دخلت على المدير العام للإذاعة والتلفزيون علني أحصل على موافقته وأعيد البلبل مغرداً في صباح بغداد، كان المدير ضابطاً كبيراً، استمع لي بضجر، وبصعوبة فهم مقصدي، ومع ذلك سألني:
ـ عن أي بلبل سخيف يتحدث هذا المخبول؟
أعدت شرح الأمر بتفصيلاته بارتباك وتلعثم، تململ الضابط المدير العام مزمجراً:
ـ اسمع! لا تضيع وقتي،بهذه التفاهات، كل دقيقة، كل ثانية في الإذاعة يجب أن تكون لخطب الزعيم، والأناشيد الثورية!

خرجت أجرجر خطاي، واجهتنني الدبابات والمصفحات المحيطة بالإذاعة، شعرت أن البلبل لم يكن مجرد اسطوانة، بل هو بلبل حقيقي من لحم ودم وأجنحة زاهية وإن هذه الدبابات والمصفحات جاءت لسحقه! وجدت أن علي أن أقترف لحظة فساد أخيرة في حياتي، هرعت لحجرة التسجيل، استنسخت على شريط حديث صوت البلبل، واحتفظت بها لنفسي، فهو سيبقى حياً في ضميري لا لأنني شربت وأكلت على حسابه؛ بل لأنه صار يبعث على نغمات صوته أيام زهو العراقيين وصفائهم،وسنوات عمري الطليقة المرحة. كنت أعتقد أن هذا البلبل لا بد أن يعود لصباحات بغداد المشرقة، لكنني اليوم أجد إنني قد شططت في أحلامي! انسحب العجوز مجيد وقد ازداد الجو عتمة. والنافذة التي لا يستطيع لوهنه إغلاقها بأحكام تسرب إليه ريحاً باردة رطبة. لجأ إلى حجرة نومه، أتجه إلى دولاب صغير، أخرج منه الشريط، كان مع صور العائلة التي شتتها الأيام، وقد حملها في رحلته المجهولة، كأعز ما تبقى لديه. ظل يمسكه بيد مرتعشة، ودون أن يضعه في جهاز التسجيل، وجد نفسه يسمع تغريد بلبله الأثير، وأغمض عينيه،هو معه يتنقل مثله طائراً، بين بيته الصغير في الكرخ، و بار تهدهده أمواج مساء رائق على دجلة، وبين غابة سويدية، يجرجر الخطى فيها كسير الجناح، بينما تصدح فوقه طيورها المختلفة المترددة بين الغابة والبحر، فيتلاشى بينها صوت البلبل البغدادي مع دخان سيجارته.