في إيران، أية الله الخامنئي هو المرشد الأعلى للجمهورية. بيده الحل والربط، وبلسانه الكلمة الفصل، وفي فيء عباءته النعمة والرئاسة والاستقرار، حتى لو تمكن حسن روحاني، المسمى معتدلًا، من تسلق قمة الرئاسة. هذا الأمر صار معروفًا ومفهومًا ومسلمًا به في العالم أجمع. ظن محمد بديع، المرشد العام للاخوان المسلمين في مصر، أنه آية الله في بلاد الكنانة، وله القول والفعل، بعدما أوصلت الديمقراطية محمد مرسي إلى الرئاسة. لكنه لم يصب.
إنها مشكلة قراءة، لا أكثر. فبديع، ومن خلفة نائبه خيرت الشاطر، والرئيس-الدمية محمد مرسي، لم يحسنوا القراءة إلى حد وصلت معه الأمور إلى اتهامهم جميعًا بالأمية. وربما ارتفع منسوب هذه الأمية حقيقة حين أذهلهم الدعم الدولي لأول انتخابات شعبية نزيهة في مصر، بعد عقود العسكر الحاكم، أنجبت أول رئيس quot;شرعيquot; للبلاد. وكانت الولايات المتحدة الأميركية أول داعمي هذه الشرعية، خصوصًا بعدما نال مرسي بركة إسرائيل بكلمة سر واحدة، عبر عنها سريعًا، وهي التزام مصر بكل المعاهدات الدولية التي وقعتها، وكامب دايفيد ضمنًا. هذا الدعم الكبير أعمى ما بقي من بصر الاخوان المسلمين ومن بصيرتهم، خصوصًا أنهم خرجوا لتوهم من سجن النطرون وسجون أخرى، إلى فضاء حرية حرموا منها ثمانين عامًا. فأرادوا الثأر من ثمانية عقود من quot;الظلمquot; في أشهر عدة، فما توانوا لحظة واحدة عن مساعيهم الحثيثة لأخونة الدولة والمجتمع. فهذه الأخونة مشيٌ على آثار آية الله الخميني، الذي حول إيران بثورته في العام 1979 من حاضرة مدنية إلى حاضرة التشيع في العالم. وهذا ما أراده بديع، تحويل مصر من حاضرة مدنية قومية إلى حاضرة التسنن في العالم، وليتربع هو على عرش إرشادها.
فات بديع أن في مصر، التي أسست للعرب دولتهم القومية، مرشدًا لا بديل عنه. فالمرشد منذ ثورة 23 تموز (يوليو) هو الجيش المصري، واستمر في كونه المرشد مع محمد أنور السادات، ومع ظهور محمد حسني مبارك بعدما قتل الجيش السادات على منصة الاحتفال بحرب تشرين (أكتوبر) التحريرية، ومع تدخل المشير حسين الطنطاوي بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) وإجباره مبارك على التنحي، واليوم مع تنحية الفريق عبد الفتاح السيسي محمد مرسي، الرئيس الأول المنتخب ديمقراطيًا. إنه المرشد بكل ما للإرشاد من معنى، فما تصاعدت في السماء المصري هتافات تأييد كالتي نالها الجيش المصري في كل مناسبة. إلى ذلك، لا تصح تسمية المؤسسة العسكرية في الدول العربية إلا على الجيش المصري. فهو مؤسسة حقيقية، ذات ذراع إقتصادية مكينة، يملك مصانع الصلب والحديد والسلاح والقطن والحرير، ومعامل توليد الطاقة، والمداجن والمزارع التي تمون السوق المحلية وتصدر للخارج. ولطالما كانت مؤسسة الجيش المصري دائنًا لمالية الدولة في أزماتها.
وما أحسن بديع، ولا مرسي، قراءة خارطة الارشاد في مصر. وما عرفوا أن لسوء التعامل مع المصريين، ومع جيشهم، عواقب غير حميدة. فهم ظنوا حتى اللحظة الأخيرة أن الترسم على المناصب باسم الدين، ورمي المحتجين عليهم بالكفر، والتمترس خلف ديمقراطية هزيلة، عوامل تمنع الجيش من تنفيذ وعيد الساعات الثماني والأربعين، نزولًا عند الضغوط الدولية، وخصوصًا الأميركية. وهم بذلك أساؤوا إلى كل حكومات الاسلام السياسي المنتخبة ديمقراطيًا. فكل طغاة العرب، وأولهم السوري بشار الأسد، وجدوا في ما جرى بمصر مبررًا لمقاومة أي مطالبة بحريات أوسع، فتكون مصر دليلًا على أن أي تغيير يأتي بالاسلاميين، ديمقراطيًا أو إجباريًا، يقود بالضرورة إلى الفوضى. كما قوّض بديع جهود نحو ثمانية عقود حاول خلالها الاخوان المسلمون ترسيخ أنفسهم البديل الحقيقي للأنظمة القومية العلمانية العربية، القمعية بطبيعتها، وأنزل فيهم خسائر لا سبيل متاح لتعويضها.
وأخطأ بديع قراءة قضية الارشاد دوليًا. فالعالم يسلك كل السبل لتطويق مرشد الشيعة، ولا يريد بأي حال من الأحوال أن يُحدث مرشدين آخرين، يقبضون على أممهم بقبضة العقيدة الدينية المكينة، حتى لو كانت مسيحية! فهذا العالم صرف كل ما في وسعه قبل أعوام ليلغي فوز يورغ هايدر، الزعيم النمساوي اليميني المتطرف، في انتخابات ديمقراطية جرت في النمسا. وبالرغم من فوز هايدر، الذي ينزله يمنيو أوروبا منزلة المرشد الأعلى، الساحق في الانتخابات، إلا انه عُزل ورُكن جانبًا، ليموت في حادث سير يقال إنه كان مدبرًا.
وإن كان الغرب منع نتوءًا عقائديًا متطرفًا في أوروبا، فالحري به إذًا أن يمنع، بكل الوسائل المتحة له، نتوءًا عقائديًا عربيًا سنيًا، خصوصًا في مصر ذات التأثير الكبير في العالم السني، وتحديدًا في عصر لم يخبُ فيه بعد نجم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. وكان على بديع أن يتمثل مما حصل لإسلاميي الجزائر في بداية التسعينيات، حين أبعدهم الغرب عن السلطة غير عابئ بما أفرزته صناديق الاقتراع، ومما حصل لحكومة حماس الفائزة في الانتخابات الفلسطين، ومما يحصل للمعارضة السورية التي تركها الغرب لتداس في القصير وحمص بحجة إسلاميتها المفرطة.
ما كان منتظرًا من الاخوان المسلمين أن ينجحوا حقًا في إدارة الدولة بمصر، لكن ما كان منتظرًا منهم أن يسقطوا هذا السقوط المريع في وقت قياسي. فقد ظن الناس أن الاعتقال ثقف محمد مرسي ومحمد بديع وخيرت الشاطر وسعد الكتاتني سياسيًا، وعلمهم الصبر على المحن، والتأني في اتخاذ القرار، إلى أنه قدموا إلى السلطة على صهوة ثورة ليست ثورتهم، ووصلوا الحكم بعد ثمانين عامًا من ظهور جماعتهم، وحكموا 367 يومًا، وانقضوا في أربعة أيام ونيف من الساعات.
إنها الأمية السياسية التي ميزت إخوان مصر منذ بدايتهم، وعسى أن يتعلم ما اصطلح على تسميته بالاسلام السياسي جيدًا من تجربة إخوان مصر، ليعرف أن الاقصاء لا يودي إلا إلى الاقصاء، والدويلة الطائفية على حساب الدولة القومية أو القطرية لا تعيش. والكلام هنا لا يوفر حزب الله أبدًا.