أهم عبارة وردت علي لسان مسئول أمريكي منذ 25 يناير 2011 وحتي كتابة هذا المقال، هي ما قاله وزير الخارجية quot;جون كيريquot;: quot;الجيش المصري أستعاد الديمقراطيةquot;. ما يعني الاعتراف الدولي بأن (الإسلام السياسي) فشل بالفعل، وأن الأحزاب الإسلامية لا يمكن أن تتقبل فكرة quot; الديمقراطية الليبرالية quot;، أو أن الليبراليين الذين يؤمنون بالتعددية (في العالم كله) يمكن أن يؤيدوا (حق الإسلاميين) - مرة أخري - في لعب أي دور سياسي في المستقبل!

لم يكن سقوط quot;مرسيquot; المدوي بسبب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة أو حتي غياب الأمن وانعدام الأمان، وإنما لرفضه التعددية السياسية (أساسا) وسعيه إلى فرض دكتاتورية دينية ولو بالعنف الدموي، مع تركيز السلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية، في أيدي جماعة الإخوان المسلمين وحدها، وتحصين نفسه كرئيس (نصف إله) من المساءلة بوضع نفسه في منزلة أعلى من (القانون)!
استراتيجية مرسي في تبني الديمقراطية (غير الليبرالية) ليست جديدة تماما، فقد نظر إلي نجاحه الانتخابي باعتباره تفويضا رسميا بالتحايل علي القواعد الدستورية الراسخة لمفهوم الدولة بالمعني الحديث، فسار علي نهج كل المستبدين والفاشيين من سوليني وهتلر وحتي قادة حماس والبشير في السودان وغيرهم، ممن أطاحوا بالديمقراطية بسلاح الديمقراطية نفسه!
وهذا هو ديدن جماعته منذ نشأتها عام 1928 وطبيعة تكوينها وتنظيمها السري، حيث لا يمكن أن تقبل بالتعددية والرأي والرأي الآخر لأنها لا تستمع إلا لنفسها فقط حتي ولو كانت مخظئة (ومعظم المنشقين عن الجماعة دونوا ذلك في مذكراتهم وأحاديثهم الموثقة)، فهي جماعة انعزالية لا تستطيع أن تتعايش إلا مع أتباعها ولا تثق إلا في أعضائها.
ناهيك عن أن التجربة التاريخية أثبتت أن من عاش في الجحور وظلام السجون وترعرع (وتمدد) تحت الأرض، لا يمكن ان يتعامل مثل الأسوياء نفسيا أو الأصحاء عقليا وإنما يحتاج إلي إعادة تأهيل طويلة المدي، لأن أشعة الشمس الساطعة غالبا ما تكشف أمراضه وربما يموت من مجرد تسليط الأضواء عليه!
مرسي سيحاسب (تاريخيا) لسبب آخر وهو أنه ألحق الضرر بمستقبل الديمقراطية الليبرالية في مصر والمنطقة كلها لسنوات هذا عددها، وتسبب في حالة (الالتباس) واللغظ الشديد الذي التي أصاب قطاعا كبيرا من المصريين، الذين ناضلوا لسنوات طويلة من أجل هذه الديمقراطية ودفع خيرة شبابهم أرواحهم ثمنا للتخلص من نظام مبارك القمعي في 25 يناير 2011، واليوم يترحم معظم المصريين علي فترة حكم مبارك بل ويطالب بعضهم صراحة بعودة ديكتاتورية العسكر من جديد؟
quot;مكر التاريخquot; الذي يفوق quot;مكر الإخوان المسلمينquot; بسنوات ضوئية كان لمرسي بالمرصاد أيضا! .. فقد وقع الاختيار علي الجنرال quot;عبدالفتاح السيسيquot; قائد عاما للقوات المسلحة في أعقاب الاطاحة بالمجلس العسكري، ربما لتدينه والتزامه (ولنفس السبب تقريبا) تمكن السيسي من الاطاحة بالمرسي وجماعته .. كيف؟
الاتجاه العام في الولايات المتحدة ndash; التي تعرف السيسي جيدا ndash; يميل إلي أن quot;الديمقراطية الليبراليةquot; لن تتحقق في الشرق الأوسط دون السماح بشكل من أشكال التعبير الديني في الحياة العامة. ولن تنجح أي ديمقراطية حقيقية ما لم تضع الإسلام في حسبانها، وفي ظل غياب حرية التعبير عن آراء ومعتقدات أخري فإن الديمقراطية سوف تظل غير ليبرالية، تلك هي المعضلة التي تواجه الجميع في هذه اللحظة الفارقة!
هذه الفكرة تحديدا .. عالجها الجنرال السيسي في دراسته (11 صفحة) المعنونة: quot;الديمقراطية في الشرق الأوسطquot; (مارس 2006)ndash; وقت أن كان دارسا ومتدربا هناك - لكلية الحرب التابعة للجيش الأميركي بولاية بنسلفانيا الأمريكية، حيث أشار إلي الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه الدين في السياسة، وطرح صيغة مبتكرة للمزج بين (الإسلام الوسطي) والديمقراطية الحديثة، مؤكدا علي أن الجماعات الإسلامية المتطرفة في الشرق الأوسط هدفها الأساسي هو العودة بالدولة الحديثة إلي عهد quot; الخلافة الإسلامية quot; في الأزمنة الغابرة، وهو ما وجد قبولا واستحسانا في الولايات المتحدة التي لا تعادي الدين أو التدين رغم كونها دولة علمانية.
في المجتمعات الحرة والمفتوحة اليوم هناك قبول متزايد لحقيقة أن الحريات الدينية تشكل جزءاً ضرورياً من هذه المجتمعات العصرية. ومن ثم أصبح الدور الذي يلعبه الدين في الحكم والمجتمع مفتوحاً للحوار علي الملأ ودون سقف ndash; كما يقول quot; توني بلير quot; في مقاله quot; الأمل وسط اضطرابات الشرق الأوسط quot; .. وهذا يصب في صميم مشاكل المنطقة وحلولها ..
السؤال الجوهري هو : كيف ستحقق نظرية الجنرال السيسي في المزج بين الدين والسياسة quot; الديمقراطية الليبرالية quot; في مصر، في حين أن quot; الدولة quot; الديمقراطية الليبرالية يجب أن تكون (علمانية) بالضرورة؟