(إلى حرائر تونس في عيدهنّ الوطني 13 آب/أغسطس)
خلافا لمزاعم الإسلاميين المتواترة، فإن إشكالية تحرير المرأة في العالم العربي الإسلامي لم تكن وليدة الصراع مع الغرب المتفجّر ابتداء من القرن التاسع عشر الميلادي، و لم تأت نتاج إرادة زعماء مستلبين مرتبطين بالثقافة الغربية مثلما جرى تصوير مشروع الزعيم الحبيب بورقيبة في الأدبيات الإخوانية و السلفية، أو خضوعا لإرادات استعمارية خارجية على غرار التصريح الشنيع العائد لوزير التعليم العالي التونسي النهضوي المنصف بن سالم الّذي ردد فيه رواية بلهاء تنسب مجلّة الأحوال الشخصية التونسية إلى ضغوط الوزير الأوّل الفرنسي يهودي الأصل منداس فرانس الذي وقّع اتفاقية الاستقلال لتونس سنة 1956.
و ما أملك الصدع به، بكل مباشرة و بساطة، أنّه ليس ثمّة موضوع شغل الإسلام منذ الحقبة النبوية إلى اليوم و أرّق مناضليه و مفكّريه و فقهائه و حكّامه و سياسييه مثل هذا الموضوع، و قد تنازعه منذ وصيّة الرسول محمد (ص) بالنّساء خيرا باعتبارهنّ شقائق الرجال، خطّان أساسيين، حال قضايا رئيسية كثيرة انقسم حولها المسلمون، خطّ تقدّمي آمن بوجوب مواصلة التأويل أخذا بروح التحرير التي مارسها النبيّ في تحدّ واضح لتقاليد و عادات مجتمعه العربي الجاهلي، و خطّ رجعي اعتقد في تجميد حقوق النساء عندما ما أقرّ في الزمن النبوي باعتبار أن ذلك أقصى ما يمكن أن تمتّع المرأة به، و نظر إلى المنظومة على أنها ثابت متوقّف لا متحوّل واجب التطوير.
و لنسهّل الفهم، فإن قضية تعدّد الزوجات على سبيل المثال، لم تكن قضية حديثة أو معاصرة في الفكر الإسلامي، و لم يكن الزعيم الحبيب بورقيبة مخترعا لموقف quot;المنعquot; فيها على أهمّية و عبقرية سيرته وسبقه في هذا السياق، فقد كان أب الأمة التونسية برأيي حلقة من سلسلة quot;المسلمين التقدّميينquot; الذين عرفهم كل زمن إسلامي تقريبا، إذ نجد إرهاصات لهذا الموقف في quot;الصداق القيراونيquot; التونسي الّذي منح المرأة حق اشتراط أن لا يتزوّج عليها و أن تحلّ عقد زواجها إن أخلّ به في هذه المسألة.
و كنّت قدّرت انطلاقا من قراءتي في كتاب الصداقة التي ربطت الزعيم الحبيب بورقيبة بأمير البيان العربي شكيب أرسلان، أن رائد الاستقلال التونسي قد استقى كثيرا من أفكاره الإسلامية التقدّمية، و من أهمّها فكرة تحرير المرأة، من تجارب تيّارات و طوائف إسلامية عريقة كالطوائف الفاطمية الإسماعيلية و الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها أرسلان، دون أن يخلّ ذلك بالأطروحة التقليدية التي اعتنقها المتنوّرون التونسيون و التي جعلت من المشروع البورقيبي تجسيدا مخلصا للأفكار التي طوّرها على امتداد قرن ونيف مصلحون تونسيون أفذاذ مثل بيرم الخامس و سالم بوحاجب و خير الدّين باشا و الطاهر بن عاشور و الطاهر الحدّاد.
و تمكّن إطلالة بسيطة على الفكر الإسلامي الدرزي مثلا، لنعرف أن هذه الطائفة التي تنسب جذورها إلى فلسفة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، و تعرف بأسماء متعدّدة من بينها quot;طائفة الموحّدين المسلمينquot; و quot;بني معروفquot;، قد منعت على أبنائها على امتداد القرون العشرة الماضية و لا تزال تعدّد الزوجات، و أمرتهم بالاكتفاء بزوجة واحدة، بناء على الاجتهاد نفسه الذي اعتمده الشيخ ابن عاشور و اتخذه الزعيم بورقيبة قاعدة للتشريع، و الذي يرى أن آية quot; و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النّساء و لو حرصتمquot; قد نسخت آية quot; وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَquot;، دون مقطعها الدّال صاحب الحجّة الربّانية quot;فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً..quot; .
و قد شكّل موضوع quot;الولاية الكبرى للمرأة مجالا إشكاليا آخر في التاريخ الإسلامي، فاصلا بين الخطّين السالفين دائما، خطّ تقدمي quot;أقلّيquot; لم يرى حرجا في تولّي النساء المنصب الأعلى في الدولة، كما كان حال quot;أروى الصليحيّةquot; أو quot;السيدة الحرّةquot; (1048-1138) التي حكمت الدولة الصليحيّة في اليمن ما يقارب نصف قرن، و كانت دولة تابعة للخلافة الفاطمية ذات عقيدة اسماعيلية مستعليّة، و جمعت بين السلطتين الزمنية و الروحية بتفويض مباشر من الخليفة الفاطمي في القاهرة، ثم بتفويض من العلماء و الرعيّة بعد انهيار الحكم الفاطمي، و قد اشتهر عهدها بازدهار حضاري و تقدّم علمي و عمراني و تطبيق صارم لقواعد العدل.
و تعدّ تونس الحاضرة لمؤهلات كثيرة تملكها، أرض فصل جديدة متجدّدة للمقالين المتصارعين في تاريخ الإسلام، و لعل أهمّ مقوّم للثقة بأنها ستكون مجالا لنصرة الرؤية التقدّمية، تلك الأمارات و الإشارات التي أرسلتها المرأة التونسية المسلمة، التي لم تعد مجرّد موضوع للإصلاح فحسب، بل تحوّلت بفعل حركة الإصلاح العريقة إلى فاعل محدّد مساهم على قدم المساواة في تحقيق هذه المساواة التي انطوى عليها النص و الشرع وعمل فقهاء متجمّدون و متأسلمون على طمس معالمها المحقّة.
و لا يرى إلا أنّ حرائر بورقيبة quot;التونسيات المسلماتquot; إنّما يعلين اليوم بحضورهّن العظيم في صفوف المعارضة الوطنية التقدّمية، و في الثورة التونسية بشوطيها السابق و الراهن، و في ما قبلها من مراحل النضال المدني و الديمقراطي، جدار صدّ يمنع كل ردّة إلى عصر quot;حريم الشيوخquot; و quot;جواري السلاطينquot;، و يبلّغن رسالة الله الحقيقية العادلة، كما بلّغها محمد بن عبد الله عليه و على آله الصّلاة و السلام، حيث النّاس متساوين كأسنان المشط نساء و رجالا إلى يوم الدّين، و حيث فاطمة (ع) أمّ أبيها من أرضاها فقد أرضاه و من أغضبها فقد أغضبه، و حيث المرأة التي ولاّها إبن الخطّاب (رض) الوزارة منذ قرون.