إنّهم يستدعون تاريخ الإسلام المبكّر بحذافيره، برموزه وحروبه وراياته السوداء والبيضاء والملوّنة، وبأجوائه وتقسيماته وأنساقه ومصالحه، وبنبيّه وصحابته ومسيلمته وسجاحه، وبمهاجريه وأنصاره وقبائله وبدوه وأعرابه، وبمكّته ومدينته ونجده ويمنه وعمانه وأحسائه، وبأبي بكر وعمر وعليّ وطلحة والزبير وإبن عوف وسعد وأبي سفيان ومعاوية وعثمان، وبسقيفته وبيعته وزكاته وصلاته وحجّه وردّته، وبمؤمنيه وكفّاره ومنافقيه وأحلافه ومشركيه وأهل ذمّته وصابئته ورعيّته.

و يخطئ كل من اعتقد بأن ما يحدث في تونس اليوم هو عند النهضة وحلفائها وتوابعها معركة بين quot;الرحيلquot; وquot;الشرعيةquot;، أو صراع بين تيّارين سياسيين يرى أحدهما بقاء التأسيسي والحكومة ويطالب ثانيهما بحلّهما، أو خلاف في وجهات النظر حول ما تبقّى من مرحلة الانتقال الديمقراطي الثانية بين قائل بضرورة استكمال المشوار وفقا للآليات القانونية المعتمدة ومؤمن بفشل هذه الآليات وضرورة الاستعاضة عنها بآليات جديدة قادرة على تحقيق أهداف الثورة.
و لمن يرقب صور مظاهرات واعتصامات ومسيرات النهضة وأنصارها، لا بدّ أن يركّز على ألوان ومضامين ورسائل الرّايات المرفوعة، وسيلاحظ دون عناء أن الأمر عند الشيخ رضي الله عنه وصحابته الغرّ الميامين وجنود حقّه الساطع المبين، حرب quot;مقدّسةquot; وجهاد مأجور مأزور مبرور ضد المرتدّين الذين منعوا عنه quot;عقالquot; البعير وأنكروا إمامته المعصومة وسلطته الأبدية، بعد أن تمكّن في سقيفة 23 أكتوبر من أخذ البيعة على quot;الأنصارquot; وquot;المهاجرينquot; ، ورفض أن يكون منهم quot;أميرquot; ومنّا quot;أميرquot;، وقال إن التونسيين لا يدينون إلا لهذا الحيّ من الإسلاميين الإخوان النهضويين.
و ترفرف الرايات السود في ساحات المدن التونسية والميادين، منتصرة لآيات الشهادة والتوحيد والتمكين، تلك التي أنكرتها quot;الأحزابquot; وquot;الجبهاتquot; وquot;النوّابquot;، ويهتف الشباب المؤمن الملتزم مقصّر الثوب والملتحي، في وجه الزنادقة والملحدين وسائر المرتدّين quot; أن موتوا بغيظكمquot; وquot;أن الله ناصر الدّين على القوم الكافرينquot; وquot;أن الشعب مسلم ولن يستسلمquot;، ويبعث أمير المؤمنين كتائب المجاهدين إلى كلّ مكان لنصرة الإسلام ومجابهة الردّة في سيدي بوزيد وقفصة وقابس وسوسة وباردو والقصبة وإخضاع المتنطّعين في كل مكان وإعادتهم لسلطان الدولة المبين.
و ينسى المؤمنون خلافات السقيفة لمواجهة أخطار الردّة التي تهدّد وجود الدولة التي منّ الله بها على المؤمنين بعد جهاد دام ثلاثة وعشرين عاما ( ولسنا نعلم لماذا استمر حكم الرئيس بن علي هذه المدّة تحديدا)، ويتجاوز الأنصار (العريضة ربّما) تحفّظاتهم على أيلولة الحكم للمهاجرين (النهضة حتما)، ويهبّ أبو سفيان وسائر المؤلّفة قلوبهم (من بقايا مؤتمر وتكتّل وآخرين) لنصرة الدولة القرشيّة اعتبارا لمحدد quot;الغنيمةquot; عند البعض وquot;القبيلةquot; عند البعض الآخر.
و يتحرّك النجباء من المؤمنين ليخلّصوا خليفة رسول الله من quot;مسيلمةquot; وquot;سجاحquot; وquot;الأسديquot;، غدرا وغيلة، فالحرب خدعة والضرورة تبيح المحظورة، وتتساقط رؤوس الردّة بمباركة أمير المؤمنين غير المعلنة واحدة بعد أخرى، فما كان لخليفة أن يهمز أو يلمز، لتدخل الرهبة في قلوب الذين كفروا وتردع كل مخلّ بالبيعة ومنكر للميثاق وخارج على الإمارة الشرعية.
و لا ضير في أن يكسب الخليفة ودّ القوى الإقليمية والدولية، من روم وفرس وحبش ودهرييّن، بأن يستبدل لفظ quot;الشورىquot; بـquot;الديمقراطيةquot;، وكلمة quot;البيعةquot; بـquot;الانتخاباتquot;، ومصطلح quot;الخليفةquot; بـquot;رئيس الحكومةquot;، وعبارة quot;أهل الحلّ والعقدquot; بـquot;المجلس الوطني التأسيسيquot;، ومبدأ quot;الكتابquot; بـquot;الدستورquot;، كما لا يضار الإسلام باسترضاء أبي سفيان ومعاوية وعموم الطلقاء ممن التحقوا بالدّين الجديد يوم 14 يناير على الساعة الخامسة والربع، سواء بالريع السياسي أو العطاء الاقتصادي أو البعثات الخارجية.
فإذا ما استتبّ الحال للمسلمين بعد القضاء على جيوب الردّة وخضوع شبه الجزيرة التونسية لسلطان أمير المؤمنين، فسيكون له ساعتها مع الطلقاء والمؤلّفة قلوبهم شأن آخر عظيم، وسيمتدحه المؤمنون مدحا يليق بالمقام العالي الأمين، عندما يمنع عن المدارين والمستترين والمتسربلين كلّ منصب أو عطاء، ويمنحها حصرا لكل ذي سابقة من quot;بدرquot; وquot;أحدquot;، ولن يفيد هؤلاء حينها ندم أو حيلة بعد أن استوت الدولة على جودي عقيدتها الحقيقية البيضاء، تسر الناظرين، وأضحى ميزان القوّة لصالحها وأمست العين على ما دونها من أرض السواد وكور العراق والشام ومصر وخراسان.