يمكن القول بأن أفضل الإسلاميين هم أولئك الذين جاءوا نتاج عقود من الضغط البناء، فالنموذج التركي الذي أدرك أفضل نسخه ndash; على الرغم من كل العيوب و الهنات التي عرّاها ميدان تقسيم- مع حزب العدالة و التنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، ما كان له أن يصل إلى هذا النفس الليبرالي الديمقراطي الحداثي لو لا تلك الرقابة القانونية و السياسية و المدنية الصارمة التي فرضتها المنظومة التركية، الرسمية و غير الرسمية، على الحركات المتناسلة من التيّار الإسلامي، و الّتي كلما جرى حلّ حزب من أحزابها، كلما قامت بتأسيس حزب جديد أكثر اعتدالا و مرونة و حداثة.
و يملك العارف تقدير الحال ذاته في مقاربته للحركة الإسلامية التونسية، التي عدّت برأي عديد الباحثين و المهتمّين بشؤون الإسلام السياسي الأكثر quot;تقدّميةquot; و اعتدالا قياسا بنظيراتها في العالم العربي، فهذا التبدّل المتواصل في الخطاب و التنظير لدى الإسلاميين التونسيين قبل إدراكهم الحكم بفضل الثورة التونسية، ما كان ليحدث لو تركت الجماعة الإسلامية ذات النزعة السلفية على حالها كما ظهرت أواخر الستينيات، فقد كان لمحن المحاصرة و الملاحقة و التشديد أثر إيجابي لا ينكر على أطروحاتها، و لا شك في أن معركتها مع مشروع تحديثي بورقيبي رائد اضطرها - و إن نفى قادتها ذلك- أن تكون quot;بورقيبيةquot; أيضا.
و سيكون للثورة الشعبية التي قوّضت حكم الإخوان المسلمين آثار إيجابية حتما على الجيل الجديد الذي سيظهر من الإسلاميين المصريين، خلافا للمزاعم التي قيلت من أن quot;الانقلابquot; سيدفعهم إلى التوجّه إلى العنف و نبذ الوسطية التي كانوا عليها، فقد كان العنف قبلة القلّة دائما كلما حدثت في السابق أزمة، و كان مزيد من السلم و الاندماج و التواصل هو خيار الأغلبية، فالإسلاميون ينقسمون بعد كل عملية ضغط من الدولة و المجتمع، إلى فريقين متباينين، أحدهما أكثر عنفا فعلا و هم الأقلية، و الآخر أكثر مرونة و استعدادا لإعادة البناء و هم الأكثرية، فالضغط البنّاء إذا هو الوسيلة الوحيدة التي تحوّل quot;الأحزاب الايديولوجيةquot; صاحبة الحقائق المطلقة إلى أحزاب ديمقراطية صاحبة حقائق نسبية.
و لا يعني الضغط البنّاء انتهاك حقوق الإسلاميين و حرّياتهم و ممارسة التعذيب و السجن و التشريد في حقّهم، فذلك يتناقض مع قيم الحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان، و هو أمر لا يمكن أن يؤمن به أو يتبنّاه أو يدعو إليه ديمقراطي حقّ، إنما يقصد به تلك الرقابة القانونية و المدنية و السياسية الصارمة الثابتة على أنشطة و تحركات و مواقف التيّارات الإسلامية، بما يحول دون استغلالها للقوانين الديمقراطية لتمرير برامج و أجندات غير ديمقراطية، مثلما ظهر في الأشهر التي حكم فيها الإسلاميون مصر من سعيهم المحموم إلى quot;أخونتهاquot;، أو ما تجلّى في تجربة حكم الإسلاميين في تونس خلال العامين الماضيين من خطوات تدلّ على تربّصهم بالأسس المدنية و الجمهورية و الوطنية و الديمقراطية التي أنشئت وفقها الدولة التونسية المستقلّة.
و يعرف الجميع في تونس اليوم، الإسلاميون و خصومهم على السواء، أن حركة النهضة حزب ديني بامتياز، نال أصوات الناخبين برفعه شعارات دينية محضة، يقول قادته ظاهرا أنهم لا يحتكرون الإسلام الذي يفترض أن يكون ملكا لجميع التونسيين و مجالا بعيدا عن الاستغلال الفئوي أو الحزبي له، فيما يقولون باطنا و يتصرّفون لاحقا خلافا لذلك تماما، فهم من يمثّل الإسلام و يتحدّث باسمه و يدافع عن مصالحه أمام أعدائه، الذين هم في واقع الأمر ليسوا سوى تونسيين آخرين، مسلمون و موحّدون لا يختلفون عن الإسلاميين إلا في إيمانهم بضرورة النأي بآيات الله عن كل بيع و شراء، و لو طبّقت معايير العدالة و بنود قوانين الأحزاب و الجمعيات السياسية السارية كما هي لتحرّكت النيابة العمومية لحظر أنشطة هذا الحزب حتى و إن كان في قائما على السلطة، و ذلك حماية للإسلام الجامع و النظام الديمقراطي و المجتمع المدني.
و لو استجاب النائب العام في تونس لمثل هذه الدعوة، لكان لاستجابته وقع ايجابي و حضاري على الإسلاميين قبل غيرهم، فهو سيجبرهم على القيام بمراجعات فكرية و سياسية، و سيدفعهم في اتجاه آفاق غير مسبوقة تقرّبهم أكثر من جوهر الدين، و تجعلهم أكثر قدرة على البحث عن المشترك مع شركائهم في العقيدة و الوطن و الإنسانية، كما سيساهم في انقاذ ما تبقّى من مسار الانتقال الديمقراطي، الذي جعله قادة النهضة حروبا متواصلة بين كفّار و مؤمنين، و ثوّار و أزلام، و أصوليين و مهرطقين، كما جعلوه مطايا حقد و انتقام و مؤامرات و دسائس و أعمال سحل و اغتيال و تولية للموالين على حساب أهل القدرة و الكفاءة و العزيمة.
و تتضمّن مسألة التعامل المثلى مع الحركات الإسلامية في ما يتّصل بموقعهم في الدولة و المجتمع الديمقراطيين، أكثر من بعد و حقيقة و مقام، فما يجب عدم نسيانه أن قطيعة ابستمولوجية لم تحدث بعد في فكر الإسلاميين بما يجعل الديمقراطية عندهم قيمة ثابتة لا مجرّد وسيلة أقل كلفة لإنجاز مهمّة مقدّسة، أو مرحلة مؤقتة في تحقيب تاريخي شبيه بالتحقيب الديالكتيكي الماركسي، يجعل الدولة الديمقراطية مرحلة ضرورية تقود للمرحلة التالية عليها، و هي مرحلة الدولة الإسلامية، فقد سمعت من أحد قادة الحركة الإسلامية كلاما من هذا النوع، يجعل من أردوغان quot;باباquot; لمرحلة تطبيق الشريعة التي كان يفترض بتركيا أن تصل إليها قريبا.
و موجز القول quot; أننا سنسدي معروفا للإسلاميين و مجتمعهم كلّما مارسنا مزيدا من الضغط البناء عليهمquot;، بمساعدتهم على خلخلة المفاهيم الجامدة في عقولهم و طرح الأسئلة العميقة على رؤيتهم الضالّة للإسلام و لموقفهم الباطني المنحرف من الأطروحة الديمقراطية.