اعتقد أن أحد أهم أسباب سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، و سقوطهم القادم في تونس لا محالة، كفرهم بالدولة الوطنية المستقلة و الكراهية الشديدة التي أظهروها لرموزها و لحظاتها التاريخية التأسيسية، و تجاوزهم لحقيقة أن شباب الثورة الّذين كانوا سببا في إيصالهم للسلطة، كانوا شبابا وطنيين رفعوا شعارات وطنية جامعة في وجه الأنظمة السابقة، التي كانت بدورها أنظمة وطنية و إن كانت مستبدّة.

لقد أصرّ الإخوان المسلمون في مصر و تونس على التشبّث بحالة الغربة عن الدولة الوطنية، و بوضعيّة الانفصام عن الشعب، و بعقلية التصادم و التآمر على المؤسسات و السعي الحثيث إلى quot;أخونتهاquot;، ظنّا منهم ربّما أن النّاس تشاطرهم خواطرهم المريضة و أفكارهم المنحرفة بأن العقود الماضية كانت quot;عقود استبداد و فسادquot; و أن رؤساءها كانوا مجموعة quot;مخلوعينquot;، و هو ما قامت بتصحيحه لهم بكل وضوح و جسارة حركة 30 يونيو/جوان المصرية.
و لا شك أن حقيقة صادمة سيدركها الإخوان ابتداء من الآن، و لو أن الرئيس المصري محمد مرسي لم يظهر ما يثبت أنه وعاها في خطابه الكارثي ليلة الثلاثاء الماضية، و هي أن عبد النّاصر هو صانع الدولة الوطنية المصرية المعاصرة، تماما كما أن بورقيبة هو باني الدولة الوطنية التونسية المعاصرة، و أن المصريين في غالبيتهم quot;ناصريونquot; بالقوّة، تماما كما أن التونسيين quot;بورقيبيّونquot; بالفعل، و أنهم لن يقبلوا أبدا حاكما أصرّ على الاستهتار بهذه الحقيقة، فالحاكم المصري لا بد أن يكون quot;ناصرياquot; بمعنى من المعاني، و الحاكم التونسي سيكون بورقيبيّا بالضرورة.
و يجب أن لا يغفل كل متابع لما يجري في مصر، و ما شهدته تونس طيلة الأشهر الماضية، عن المكانة التي تحتلها الراية الوطنية المصرية و الراية الوطنية التونسية في تظاهرات الاحتجاج و تحرّكات المعارضة و دعوات تصحيح مسار الثورتين المصرية و التونسية، فالدولة الوطنية في مصر و تونس تخوض حرب وجود ضد مشروع الإخوان المسلمين القائم على نكران هذه الدولة و تهميش الهويّة الوطنية و الحط من قيمة الرموز المؤسسين لها و التآمر على صورتهم الثابتة اللامعة المتألّقة في قلوب أبناء شعوبهم، و هي صورة انبثقت عن الإحساس الجماهيري بصدقهم و إخلاصهم و ارتباطهم المتين بأمتهم، أيا كانت الملاحظات المشروعة عن أخطاء ارتكبوها أو عثرات مرّوا بها.
لقد استخفّ الإخوان المسلمون في مصر و تونس، و في كل مكان وجدوا فيه، بمشاعر النّاس الوطنية، و ظنّوا أن الانتخابات التي انتصروا فيها في غفلة تاريخية من شعوبهم، هي انتخابات لمرّة واحدة تمنح شرعية و حاكميّة أبدية، تمكّن من قلب طبائع الدولة و المجتمع و تبيح معارضة التاريخ و المستقبل و تتيح قلب الأمور رأسا على عقب، و كأنما كان على نخبهم و عامّتهم أن تراهم يقيمون قواعد دولة دينية و يمارسون ديكتاتورية غاشمة بإسم الرئاسة المنتخبة أو الأغلبية النيابية، و يتركونهم ينقضون العرى عروة عروة و يزيّفون التاريخ صفحة صفحة.
و لقد ضرب الإخوان في تونس و مصر أروع الأمثلة في استعداء النّاس و زرع الأحقاد و الكراهية تجاههم في أسرع وقت ممكن، فقد كان كافيا أن يحكموا بضعة شهور ليكتشف مواطنوهم كافة مظاهر زيفهم و تحريفهم، تديّنهم المغشوش و أخلاقهم الفاسدة و علوّهم و استكبارهم و غرورهم و قلّة كفاءتهم و عدم إخلاصهم لأهداف الثورة و تلاعبهم بملفّات الأنظمة السابقة و دخولهم في آلاعيب تصفية الحسابات المضللّة و مسعاهم في الهيمنة على الإدارة و مؤسسات الدولة و تقسيمهم الشعب و تهديدهم للوحدة الوطنية و عدم وفائهم العقود و الالتزامات و العهود و المواثيق و سخريتهم من الخصوم و استهتارهم بالحوار و عدم سلام النّاس من ألسنتهم و أيديهم.
و قد ظنّ الإخوان أن مجرّد مسكهم بمقاليد السلطة كاف لتمرير مشروعهم، غير أن الشعوب لقّنتهم درسا قاسيا ابتداء من التجربة المصرية، فاستعانتهم بوصايا الفاسدين في الأنظمة السابقة و محاولتهم تأليب المعارضين بعضهم على بعض و استغلال التناقضات القائمة في برامجهم، لم يفدهم في شيء، و تبيّن لهم أن النّاس ليست مستعدّة للخضوع لهم أو لغيرهم، و أن ثوابت الأمة و الدولة و رموز الوطنية ليست قابلة لتحويلها إلى متغيّر.
بقيت الإشارة إلى أن تجربة حكم الإخوان المسلمين لمصر و لتونس و لسواهما، ستظل تجربة مفيدة جدّا للدولة الوطنية و للمشروع الديمقراطي و لمخططات التقدّم و التنمية و التحديث، فبعد هذه التجربة لن يكون بمقدور أحد أن يضحك على عقول النّاس بشعارات دينية و لن يقوى أحد على التجرؤ على منوال الحياة و المجتمع و لن يستهزئ أي تيّار سياسي مهما أوتي من شعبية بآباء الدولة الوطنية و لن يصادم أحد اتجاه التاريخ، فالتاريخ البشري لن يقبل بأي حكم يكفّر الفنون و الآداب و الإبداع و الحرّية، و لن يقبل بدولة لا تحترم التنوّع و حقوق الإنسان و تفرّق بين مواطنيها و تجعلهم أشتاتا لا بشرا متساوين.