لم يحدث أن أثار عملٌ دراميّ الجدلَ كما فعل المسلسل السوري (الولادة من الخاصرة: منبر الموتى) للكاتب سامر رضوان مع كثرة الأعمال التي عَرضتْ، أو تطرّأت بنسب متفاوتة، لما يجري الآن على الساحة السورية من صراع. ورغم أنّ المسلسل حاول أن يقدّم معظم وجهات النظر المختلفة والفاعلة على الأرض، فقد جاءت آراء النقاد والمشاهدين حول مدى مقاربته الواقع والتعبير عنه متباينة وحادّة أحياناً، وهذا عائد غالباً لمواقفهم السياسية التي طغت على الرؤية الفنية للعمل. ولم يكن المسلسل وحده مصدر الجدل، فقد امتدّ هذا إلى شخصية الكاتب وسيرة حياته التي وضعت أيضاً على المشرحة، بالتزامن مع اعتقاله مرتين الأولى سبقت قليلاً عرض المسلسل والثانية أثناء عرضه..
اتهم المتشددون في المعارضة وخاصة الفئة المثقفة سامرَ رضوان بأنه شوّه الثورة من خلال شخصية مهران الثائر اللص الدموي، والغريب أنّ أحد هؤلاء المثقفين لم يتراجع أو يعتذر حين ظهر في الحلقات التالية أنّ مهران هو من أزلام النظام الذين اخترقوا الثورة ليضربوها، وهذا مايؤكد تشنّج هؤلاء المنتقدين وانغلاقهم على أفكارهم وعصبيتهم. بالمقابل أنشأت الموالاة صفحات خاصة على الانترنت للتنديد بالمسلسل وتجريم الكاتب متهمة إياه بتشويه صورة الأجهزة الأمنية والتحريض على الثورة، وراحت تخلط القصص مدعية أنه كان ضابطاً في المخابرات وسُرّح لفساده، سائرين في ذلك على نهج السلطة التي عملت على تشويه سمعته مبررة اعتقالها له بأسباب شخصية مثيرة للسخرية وغير مقنعة.. فمن يصدق أنّ كاتباً ينال أجراً بالملايين على كتابته يَخطفُ بقوة السلاح ممثلاً ناشئاً ليطلب فدية!!!!!
طالما روى سامر ضاحكاً قصة أول استدعاء أمني له بسبب شعره الثوريّ. كان مليئاً بالفخر والعنفوان اللذين يميزان شابّاً مثله دون العشرين.. يقول له المحقق: شو يا (...) عم تنتقد أصحاب العروش؟ فيضرب سامر الطاولة أمامه بكفه مجيباً بحدّة: quot;أنا ماني (...). أنا الي اسم، ومعروف بالمدينةquot;.. ينظر إليه المحقق بسخرية ويضيف: quot;هلأ أضربك كف بتطلع تعملّي فيها مناضل.. انقلع من وجهيquot;.
هكذا تصرف معتقلوه بعد حوالي عشرين سنة. لا يريدون أن يمنحوه صفة مثقف معارض، فيلجؤون لتشويه سمعته. وللأسف والغرابة معاً يلتقط بعض المعارضين اتهام النظام للكاتب والقصص التي تنشرها الموالاة عنه ويطعنونه بها ثانية! فطوبى لمن يقوى على تلقي كل تلك الطعنات والسهام ويحتفظ بحبه للبلاد وأهلها، وينأى بنفسه عن مهاترات المثقفين!
عبّر مسلسل (الولادة من الخاصرة) في جزئه الأول عن حالة السكون السلبيّ التي وسمت الحياة هنا لزمن طويل، فأظهر أنّ عالمنا الراكد والموجوع لايمكن أن يكون حاضناً لولادة شخصيات طبيعية، ثم صعّد في جزئه الثاني (ساعات الجمر) من حدة التوتر والصراع بين الرحم المشوّه المتلظي ليلفظ مولوده طوعاً أو كرها وقاتلٍ يشحذه الخوف من حياة جديدة. رسمَ تفاصيل المخاض العسير لأحداثٍ آنَ أن تولد، مصوّراً اللهب وهو يسري ببطء وسرّية في الأرواح ويهيئها للاشتعال، ورأينا في النهاية العشبَ القصيرَ القامة يتململ ويمدّ أعناقه اليابسة فوق السور منذراً بحرائقَ أو مبشّراً بشرفاتٍ ينعتق فيها المولود من الخاصرة.
أما الجزء الثالث (منبر الموتى) فقد حاول أن يلتقط البؤر الأساسية النشطة في الأحداث السورية، دون أن يذهب للتوثيق أو يغرق بمحاكاة الواقع، مقيَّداً في ذات الوقت بسيرورة الحكاية ونمو الشخصيات وفق سياقاتها التي ظهرت في الجزأين السابقين. لقد كان تركيزه ومنذ البداية على الناس الفقراء النابتين داخل عشوائياتهم كعشب بريّ مهمَل وتوّاق، مقابل السلطة المستبدة المنغلقة على ذاتها في ديمومة جدلية عقيمة لاتنتج إلا ذاتها.
ولأنّ الأيدي التي تلقفت المولود كثيرة وغير متجانسة، يتعقد الصراعُ، ويأخذه إلى دروب مفتوحة على المجهول.. يسود القتلُ، ويصبح المسلسل منبراً للدم المسفوح.. يرتل المدعوّون أسماءهم، وينشغل كل جمهور بالتصفيق لشهدائه دون أن يسمع ما يقولون، ثم يغيبون خلف ستار الأبدية.. تغمر الجثث المنبر، لكنّ أحداً لا يصغي لرسائل الموتى، فيرى سامر رضوان أن يسلّمه في المشهد الختامي لأمهات الضحايا.. ذوات الأرحام وصلات الوصل بين أبناء البلد، فتعلن الأم/ الوطن رسالة تحذير ودعوة للوئام قبل أن يعمّ الموتُ والخراب..
هذه النهاية لم تعجب المتشددين في طرفي النزاع من الموالاة والمعارضة، ووجد كلٌّ منهما فيها خيانة لدم شهدائه.. هكذا أيضاً رأت عربُ بكر وتغلب حتى كادتا أن تفنيا، ثم عبس وذبيان ومن حالفهما، وكان عليهم أن يخوضوا حرب أبناء العمومة أربعين عاماً كاملة قبل أن تهدأ نفوسهم ويرضوا بالسلام الذي حمله الحارث بن عوف والهرم بن سنان.. لقد أظهر المسلسل أخطاء الطرفين وإن حمّل النظام بدرجة أكبر مسؤولية العنف والدمار الذي استشرى وهيمن.. لكنّ من آثر أن ينظر إلى جانب واحد من الأزمة التي تعصف بالبلاد، لن يتوانى عن كسر المرايا لتصبح الحقيقة بحجم رؤيته المشطورة.. المسلسل أعاد لملمة الشظايا وعكس جوانب المأساة بتحدٍّ كبير كلّفه اعتقالين وهجوم من الطرفين..
لعلّ إحدى تحديات كتابة الجزء الثالث في أي عمل درامي أنّ الشخصيات تشكلت سابقاً وفقدت بريق إطلالتها وغموضها المثير، لكنّ شخصيات (منبر الموتى) حافظت على جاذبيتها، ونمَتْ كأشجارٍ تثق بفضاءاتها، إذ راحت تياراتها العنيفة تسحب المتفرج إلى أعماقها البعيدة حيث يتصارع الموت والحياة.. القهر والرغبات.. الجنون والألم والتحدي، وظلت قادرة على التوهج كسحب حبلى تنتظر لمسة البرق ليتفجر غيثها.
قدّم الكاتب تنوعاً ثرياً في أساليب الحوار ووظائف اللغة، فتارة تغلب على لغته المناجاة الشعرية الجميلة، وتارة تصبح محفزة للتامل والكشف مغرية المتلقي بالذهاب بعيداً، ومرة توظف للإمتاع والترويح عن النفس. وأحياناً تصبح مكوّناً أساسياً للشخصية. فلغة أم الزين الضحلة والمتكلفة مع نمط ملابسها يرسمان مشهداً لوقوع الطبقة الشعبية في براثن البرجوازية حين تعاني الأولى من فقدان الحس بالاحترام والهوية. كذلك غدتْ لغة أبي حسام المنفلتة من سياقاتها تكثيفاً لعالم مشوّه.. لغة تنبثق من حالة التشتت الذهني والانقسام والتناقض والعشوائية وفوضى القوانين التي سادت البلد وعناد التربية العسكرية الصارمة.
يروي سامر رضوان في المشهد الختاميّ حكاية حرب أهلية تلتهم الأبناء.. من الأرحام خرجنا إلى أرض لاتعرف الرحمة. طُردنا من جحيم إلى جحيم، ومن عزلة إلى عزلة. تشرذمنا إلى أذرعة أخطبوطية تلتف وتتشابك وتتصارع. يختبئ الجلاد في الضحية، ويهطل الموت المجاني. كم من العمر سيمضي؟! كم من الأبناء سيتوالَون على منبر الموتى ولاأحد يصغي إليهم؟ هل ستبقى منابرنا ساحات للنزاع والندب والنحيب بانتظار يوم تنفجر فيه ذاكرة الأرحام، وتتدفق سيول الربيع. تطهّرنا وتأخذنا لنصنع الأحلام ونعيد البلاد؟