ليس الشرق الأوسط الجديد مشروعا اميركيا. إنّه مشروع يخدم قوى عدّة في المنطقة القاسم المشترك بينها أنّها غير عربية. هذا لا يعني، من دون ادنى شكّ، أنّ العرب يستطيعون التهرّب من مسؤولية وصول الوضع في المنطقة إلى الدرك الذي وصل اليه. هناك مسؤولية عربية كبيرة في كلّ ما حدث في السنوات الأخيرة المليئة بالمؤشرات التي تصبّ في& عملية اعادة تشكيل الشرق الأوسط.
نعم، الشرق الأوسط الذي عرفناه صار جزءا من الماضي. لا يمكن للعراق أن يبقى موحدا. كذلك الأمر بالنسبة إلى سوريا. ستكون للأحداث التي تمرّ بها سوريا حاليا، وتلك التي تبدو مقبلة عليها، انعكاسات على لبنان ايضا.
وفي حال انتقلنا إلى منطقة بعيدة عن منطقة الهلال الخصيب، أي الى اليمن، نجد أن هناك بلدا يتفتت ويعاد تكوينه من جديد على اسس لا علاقة لها بالوضع الذي قام منذ العام ١٩٦٢، تاريخ اعلان الجمهورية في الشمال، والعام ١٩٦٧، تاريخ استقلال الجنوب وبداية انسحاب بريطانيا من منطقة الخليج. الأكيد أن اعادة تكوين اليمن لن تكون لها علاقة من أي نوع بالوحدة الإندماجية التي قامت بين الشمال والجنوب في ١٩٩٠ والتي تبدو حاليا بمثابة حلم لم يعمّر سوى أقلّ من ربع قرن من الزمن.
حتى مصر، كبرى الدول العربية، تواجه تحدّيات من نوع جديد، بعدما اضطرت المؤسسة العسكرية إلى اتخاذ تدابير ذات طابع جذري في سيناء. اذا كانت هذه التدابير تؤكد شيئا، فهي تؤكّد أن مصر، حيث كانت حملة تشنها احدى اذاعاتها كافية لتهديد هذا النظام العربي أو ذاك، باتت عاجزة عن التعاطي مع الخطر الآتي من قطاع غزّة...
بعد انفصال جنوب السودان قبل ثلاث سنوات وقيام دولة مستقلّة فيه، لم يعد هناك شيء مستحيل. من كان يصدّق أن الدولة السودانية التي عرفناها ستصبح دولتين في أقلّ تقدير؟ الآتي في السودان اعظم، خصوصا في غياب الحاكم القادر على التعاطي مع تعقيدات& تتجاوز المشاكل المتعلقة بالدول التي يعبر نهر النيل اراضيها، لتصل إلى أمن البحر الأحمر.
تتمثّل السمّة المميزة لكل الأحداث التي شهدتها المنطقة بسقوط فكرة الدولة وبروز رابط جديد يتفوّق على رابط المواطنة. ما حلّ بالعراق مسؤولية النظام العائلي ـ البعثي الذي جاء بالأميركيين في العام ٢٠٠٣ بعدما أخذ العراق والعراقيين من مغامرة إلى أخرى. توّجت هذه المغامرات بعمل مجنون هو احتلال الكويت. تلخّصت الوصفة الأميركية للعراق باللجوء إلى كلّ ما من شأنه اثارة الغرائز المذهبية بما يخدم المشروع الإيراني في المنطقة.
لم يكن ما يزيد على نصف قرن من حكم البعث، ثم الطائفة، ثمّ العائلة في سوريا، بمباركة اسرائيلية، سوى الطريق الأقصر للوصول إلى ما وصل إليه هذا البلد الذي كان في استطاعته أن يكون من أفضل دول المنطقة بفضل ثروة الإنسان وثرواته الطبيعية.
تبيّن أن الدولة في سوريا كانت في ازمة مستمرّة. كانت هناك ازمة نظام وازمة كيان في الوقت ذاته. تصاعدت الأزمة مع وصول البعث إلى السلطة تمهيدا لتسليم مقاليد البلد إلى الطائفة والعائلة. لم تكن هناك من خدمة أكبر من هذه الخدمة تقدّم إلى اسرائيل وتركيا في آن، في وقت تعتبر ايران أن بقاءها ممسكة بدمشق حلقة مركزية في مشروعها التوسّعي المرتكز على المذهبية.
الثابت، أقلّه إلى الآن، أن ليس لدى اسرائيل إو تركيا ما تعترضان عليه في سوريا، بما في ذلك تورّط الميليشيات المذهبية العراقية واللبنانية وقوات ايرانية في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.
هناك ثلاث قوى تنتظر ما سيؤول اليه العالم العربي. هذه القوى هي ايران وتركيا واسرائيل. لعلّ اكثر ما ترقبه هذه القوى السقوط النهائي للدولة ومفهوم الإنتماء الوطني في العراق وسوريا ولبنان واليمن وحتى في فلسطين حيث الرابط العضوي القائم بين الإخوان المسلمين في غزّة، ممثلين بـ"حماس"، مع اخوان مصر، أقوى بكثير من ذلك الذي يربط "الأمارة الإسلامية" في غزّة بالضفة الغربية. هذ،ا على الأقل، ما كشفته العمليات الإرهابية التي يتعرّض لها الجيش المصري في سيناء.
من مفهوم الدول والكيانات التي أسّس لها اتفاق سايكس ـ بيكو في العام ١٩١٦، إلى زوال الحدود بين قسم من شيعة لبنان الذين يمثّلهم "حزب الله" من جهة وعلويي سوريا من جهة أخرى وبين سنّة العراق من جهة وسنّة سوريا من جهة أخرى، لا يمكن الإستهانة بالتحولات التاريخية التي تشهدها المنطقة. كان آخر تعبير عن هذه التحوّلات نجدة اكراد العراق لأكراد سوريا في كوباني، أي عين العرب.
في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل أنّ العصبية الأقوى في اليمن التي ترافق صعود نجم الحوثيين (انصار الله) هي العصبية المذهبية التي تغذّيها ايران بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
سقطت اكثر من دولة عربية واحدة حتّى الآن. سقط العراق وسقطت سوريا، وقد يسقط لبنان الذي لا يزال من دون رئيس للجمهورية منذ& اكثر من خمسة اشهر. سقط اليمن وسقط السودان. مصر تواجه تحديات من بينها& العجز عن السيطرة على الوضع في ليبيا. الجزائر مهدّدة بدورها بعدما شاخ النظام فيها وبات مضطرا إلى اللجوء إلى اعادة انتخاب رجل مريض اسمه عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية... لولاية رابعة!
يحصل كلّ ما يحصل في ظلّ ادارة اميركية لا تمتلك أيّ استراتيجية من أي نوع كان للمنطقة. ولكن هل وضع ايران وتركيا واسرائيل افضل من وضع الدول العربية الساقطة؟
ظاهرا، وضع الدول الثلاث يبدو أفضل. في العمق، ليس ما يشير إلى أن الدول الثلاث ستكون قادرة على وراثة العالم العربي، خصوصا بعد انتقال الكثير من العلل العربية اليها.
فايران، ذات الإقتصاد الضعيف المرتبط بسعر النفط، تمارس اللعبة المذهبية وتستثمر فيها. هذه اللعبة لا يمكن إلّا أن ترتدّ عليها عاجلا أم آجلا.
تركيا غارقة في لعبة الإخوان القائمة على وهم كبير ليس إلّا، وذلك برغم ما حققته من انجازات اقتصادية. لعلّ السياسة السورية والمصرية والفلسطينية لتركيا افضل دليل على مدى ضعفها وجهلها بما يدور في المنطقة...
أمّا اسرائيل، فهي تعاني من عقدة الشعب الفلسطيني الموجود على الخريطة السياسية للمنطقة... ومن عدم القدرة لا على الحرب ولا على السلام. يحكمها مريض اسمه بنيامين نتانياهو يتصرّف كأي حاكم عربي متمسّك بكرسيه. اسرائيل صارت اسرائيل بالفعل جزءا من المنطقة. من عاشر القوم اربعين يوما صار مثلهم أو رحل عنهم. يبدو أنّها صارت مثلهم لا اكثر!
&