حتى هذه اللحظة لم أعد بإستطاعتي إستيعاب أسباب الضجة الكبيرة التي أثارتها بعض الدول المنتجة للنفط بسبب إنخفاض الأسعار إلى ما دون الـ 60 دولارا بقليل، وكأنها تحدث لأول مرة في التاريخ. منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي وحتى وقتنا الحالي وأسعار النفط تتهاوى بعد صعودها إلى سعر قياسي كل سبع إلى ثمان سنوات تقريبا لأسباب وعوامل مختلفة.


في عام 1979م إنطلقت الثورة الإسلامية في إيران وأنخفضت إمددات النفط حينها عن السوق بما يقارب نحو 2 مليون برميل يوميا، حيث ادى ذلك إلى تضاعف الأسعار لتصل إلى 25 دولارا للبرميل، وكانت هذه أعلى قيمة يصل إليها منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1980م بدأت الحرب العراقية – الإيرانية التي تسببت في هبوط إجمالي إنتاج النفط من البلدين من 6,5 مليون برميل يوميا قبل الحرب إلى مليون برميل يوميا في عام 1981م. وبسبب الحرب بين البلدين إرتفع متوسط السعر إلى 37 دولارا في عام 1981م وهو أعلى سعر يصل إليه برميل النفط في التاريخ وقتها.


بين أعوام 1982م و 1986م إنخفضت أسعار النفط بصورة كبيرة ولكن تدريجية، حيث إنخفضت الأسعار من 37 دولارا في عام 1981م إلى أقل من 10 دولارات في عام 1986م، والسبب في ذلك كان سوء إدارة منظمة الأوبك للسوق العالمية وطمع وجشع الدول الأعضاء الذين عملوا المستحيل لإبقاء أسعار النفط عالية. لكن القرار لإبقاء أسعار النفط عالية هو ما تسبب في إنخفاض الطلب على النفط وإتجاه دول العالم المستهلكة نحو ترشيد الطاقة وإستخدام البدائل. كما ساهم ذلك في زيادة الإنتاج من الدول خارج الأوبك وخاصة من دول بحر الشمال. في شهر ديسمبر 1986م عادة دول الأوبك إلى رشدها حيث تم الإتفاق على تحديد سعر 18 دولارا للبرميل، وللدفاع عن هذا السعر تم خفض الإنتاج من 17 مليون برميل يوميا إلى 15,8 برميل، وبقيت أسعار النفط في هذه الحدود قبل أن ترتفع إلى 23 دولارا في عام 1990م بعد غزو العراق للكويت.


ظلت أسعار النفط تدور في فلك العشرين دولارا طيلة السنوات الثمان بين 1990م و 1998م وهو العام الذي إنهارت فيه الإقتصادات الآسيوية وعرف وقتها بالأزمة الأسيوية التي أدت إلى إنهيار الأسعار لتصل إلى حدود 11 دولارا للبرميل. وانتهت هذه الأزمة بعد الإتفاق بين دول الأوبك والدول المنتجة خارجها مثل المكسيك والنرويج على تخفيض الإنتاج لرفع الأسعار. وفي عام 1999م إرتفعت اسعار النفط إلى 16 دولارا ثم إلى 27 دولارا في عام 2000م. ما بين الأعوام 2000م و2008م إزداد الطلب على النفط في العالم بصورة كبيرة جدا، وذلك بسبب نمو الطلب من الصين والهند وباقي دول العالم الناشئة. إلا أن النمو في الطلب كان مفاجئا ولم تكن الدول المنتجة مستعدة له وهو ما تسبب في إرتفاع الأسعار بسبب محدودية المعروض النفطي أمام نمو الطلب.
وفي عام 2008م إشتدت المضاربة على اسعار النفط في السوق العالمية وساهمت في إرتفاع الأسعار لتصل إلى 147 دولارا للبرميل في شهر يوليو من العالم نفسه وهو أعلى مستوى لها في التاريخ. إلا أن هذا لم يدم إلا أياما قليلة حيث بدأت الأسعار تنخفض بشكل سريع بعد أن تقلصت المضاربات وضعف الطلب بسبب الأزمة المالية العالمية التي حدثت نتيجة سقوط البنوك الأمريكية الكبرى وإنهيار شركات الرهن العقاري، حيث إنخفضت الأسعار بنهاية عام 2008م إلى ما دون ألـ 40 دولارا للبرميل. على ضوء هذا الإنهيار الكبير في الأسعار، إجتمعت منظمة الأوبك في مدينة وهران الجزائرية واتخذت قرارا تاريخيا بعمل أكبر تخفيض جماعي في تاريخ المنظمة تم بموجبه سحب 4,2 مليون برميل يوميا من السوق، وعلى أثره بدأت الأسعار ترتفع وتستعيد عافيتها.
وفي أعقاب الربيع العربي بداية العام 2011م، تفاقمت الإضطرابات السياسية في الوطن العربي وأدى ذلك إلى إنقطاع الإمدادات من الكثير من الدول العربية المنتجة مثل ليبيا وسوريا واليمن، وخرج نحو 1,6 مليون برميل من النفط الليبي الخفيف عالي الجودة من السوق ولم تتمكن دول الأوبك من تعويضه، وعليه بدأت الأسعار في الإرتفاع حتى إقتربت من حاجز ألـ 120 دولارا للبرميل. وكما حدث في الثمانينيات من القرن الماضي، فإن بقاء الأسعار فوق 100 دولار لأكثر من ثلاث سنوات ونصف ساهم وقتها في إضعاف الطلب لحد ما وفي دخول حقول بحر الشمال. وقد تكرر السينياريو نفسه خلال السنوات الأخيرة بدخول النفط الصخري الأمريكي إلى الأسواق، وتسبب هذا بالإضافة إلى تباطؤ النمو في الإقتصاد العالمي وإنحسار المخاوف السياسية في المنطقة إلى هبوط اسعار النفط من 115 دولارا في شهر يونيو إلى ما دون الـ 60 دولارا في الوقت الحالي.


لا يختلف إثنان على أن النفط شريان رئيسي وحيوي لحياة البشرية وتطورها وسلعة إقتصادية مهمة في الإقتصاد العالمي، إلا أن النفط في النهاية سلعة كباقي السلع الأخرى يخضع لقانون العرض والطلب. وقد ثبت من غير شك منذ الثمانينيات من القرن الماضي أن الإقتصاد العالمي لا يتحمل لفترة طويلة إرتفاع أسعار النفط إلى مستويات غير طبيعية تفوق قدرة الكثير من دول العالم على تحمله. وعليه فإن هذه الدول تعمل على خفض إستيرادها عبر ترشيد إستهلاك النفط ومشتقاته كلما إرتفعت الأسعار، وهذا بدوره يؤدي بعد فترة إلى تراجع الأسعار. كذلك لا يمكن إغفال عامل آخر مهم في علم الإقتصاد وهو "تباطؤ النمو الإقتصادي" الذي يتعرض له إقتصادات العالم بعد كل طفرة إقتصادية.
سوف تبدأ دول مجلس التعاون الخليجي الست بالمعاناة جراء إنخفاض أسعار النفط التي خسرت نصف قيمتها تقريبا، ودول الخليج التي تنتج 17,5 مليون برميل يوميا يمكن أن تخسر نصف عائداتها النفطية مع الأسعار الحالية، اي حوالي 350 مليار سنويا. وبما أن العائدات النفطية تشكل ما بين 80% إلى 90% من العائدات العامة لمعظم دول الخليج، ومع إنخفاض الأسعار إلى ما دون توقعات الموازنة فإن الحكومات ستواجه من دون شك عجزا العام القادم، وهذا العجز سيؤدي بدوره إلى خفض الإنفاق العام على مشاريع البنية التحتية الضخمة، وسيؤثر أيضا على القطاع الخاص. وقد تلجأ الحكومات للسحب من إحتياطاتها المالية أو الإقتراض من اسواق المال العالمية لتمويل مشروعاتها التنموية.


إن المتابعين والمهتمين بموضوع اسعار النفط من الإقتصاديين في دول الخليج والمنطقة العربية وبعض دول العالم يقولون أن الجزء الأكبر من عائدات النفط المالية في السنوات الثمان الممتدة من عام 2000م إلى عام 2008م لم تستثمر بشكل سليم كما هو مفترض في مشاريع البنى التحتية التي تؤمن فرص عمل للشباب الذين تزداد معاناتهم من البطالة، ولا في تطوير البنى التحتية القائمة وقتها التي تعاني من القدم والترهل كمحطات توليد الكهرباء والماء والطرق والمستشفيات والمدارس وغيرها، ولا إنشاء المدن السكنية لحل مشكلة الإسكان المستفحلة التي يعانيها فئة كبيرة من المواطنين، ولا تطوير وتوسيع الجامعات لإستيعاب العدد المتزايد من خريجي المدارس الثانوية الذين يطمحون لمواصلة دراستهم الجامعية.
هؤلاء المتابعون والمهتمون يرون العكس، حيث أن الجزء الأكبر من عائدات النفط قد تم إستثماره في شراء الأسلحة والمعدات العسكرية وإنشاء مجمعات سكنية (على شكل قرى أو مدن صغيرة الحجم) تتوافر فيها كل وسائل الراحة والترفيه والخدمات عالية الجودة، وكذلك إنشاء الأبراج السكنية الشاهقة التي تحتوي على شقق سكنية فخمة. هذه المشاريع التي إستحوذت على الجزء الأكبر من عائدات النفط المالية لم يستفد منها الجزء الأكبر من المواطنين ( الطبقتين الوسطى وذوي الدخل المحدود) لإرتفاع كلفتها، وهي في الواقع موجهة لخدمة الطبقات الثرية في الدول الخليجية التي لا تتعدى نسبتها 20%، وأن هذه المشاريع لا تراكم ثروات على المدى البعيد.


وكما يعرف الجميع أن النفط ثروة قابلة للنضوب، فإن الإقتصاديين يتسائلون عن مستقبل المنطقة ومصير الأجيال القادمة بعد نضوب هذه الثروة (في بعض دول الخليج قد ينضب النفط خلال 40 إلى 50 سنة). إن السياسة الإقتصادية المتبعة حاليا في المنطقة كما يراها الإقتصاديون لا تستثمر في تطوير وتنمية الإنسان الخليجي وأن عواقبها على الأجيال القادمة ستكون وخيمة إذا لم يعاد النظر فيها. وفي إعتقادنا أنه لا يزال هناك متسع من الوقت – إذا توافرت الإرادات السياسية الحسنة – لإنتهاج سياسة إقتصادية علمية توفق بين المحافظة على المخزون النفطي لأطول فترة ممكنة عبر ترشيد الإنتاج والإنفاق، وإستثمار عوائد النفط المالية في مشاريع إقتصادية منتجة تخلق فرص عمل للمواطنين وتساهم في زيادة الدخل القومي وتوفر البدائل للأجيال القادمة. التخطيط الإقتصادي العلمي والسليم لا يهدف فقط إلى توفير حاجات ومتطلبات الجيل الحالي، بل يسعى لبناء قاعدة إقتصادية صلبة لمواجهة الهزات الإقتصادية وتقلبات أسعار النفط ومتطلبات وحاجات الأجيال القادمة.
المصدر: الحصاد - جريدة الشرق الأوسط، الأربعاء 10/12/2014م – العدد 13161.

&