جاء رد بوتين العسكري على الثورة الأوكرانية أسرع مما توقعه الكثيرون من المعلقين. فها هو يغزو بقوات البحرية الروسية في ميناء سواستبول عاصمة جزيرة القرم، ويحاصر البرلمان، ويحتل مطارات، والعلم الروسي يرتفع. فهل هو مجرد استعراض للقوة وكإنذار، وينسحب؟ أم سيبقى، منتظرا ردود الحكومة المؤقتة في كييف، والمواقف الغربية، بانتظار عمليات أوسع، على الأقل في شرق البلاد وجنوب الشرق، لتحويلها باسم الاستقلال إلى محميات لروسيا، كما فعل في جورجيا، دون أن يتلقى العقاب اللازم من المجتمع الدولي. وغي نفس الوقت يظهر الرئيس الأوكراني المعزول في مؤتمر صحفي في مدينة روستوف الروسية، متحديا الشعب الذي قام بالانتفاض عليه.
إن رئيس الحكومة الأوكرانية الانتقالية كان قد خاطب الروس وروسيا كأصدقاء وإخوة، وفي الوقت نفسه يتوجه اليوم للغرب للمساهمة في حماية سيادة ووحدة أراضي أوكرانيا، التي كانت روسيا نفسها قد تعهدت باحترامها . ولعل الحكومة الانتقالية سوف تتردد في الرد العسكري على الغزو الروسي قبل أن تطمئن من صلابة الموقف الغربي ومجلس الأمن، وهي التي تدرك أنها عاجزة عن مقاومة القوات العسكرية الروسية لو وسعت هذه من مساحات اجتياحها. وهذا لا يعني أنها والشعب الاوكراني سوف يبقيان مكتوفي الأيدي. الواضح لحد اليوم أن أوباما ليس في وارد رد قوي على هذا الغزو الروسي، وهو الحريص على مواصلة تحالفه مع بوتين، كما أنه هو الذي وقف ساكتا عند الغزو الروسي لجورجيا عام 2008، وكان منتظرا منه أن يتخذ إجراءات صارمة عند ولايته الأولى. أما الاتحاد الأوروبي، فإن مواقف أعضائه ليست واحدة، وهو يعرف أنه غير قادر على إنقاذ أوكرانيا من أزمتها وديونها المالية الكاسحة. وصندوق النقد الدولي، من جانبه، سوف يفرض شروطه لتقديم القروض الكبرى التي تحتاجها أوكرانيا.
بوتين ربما قد وضع هذه الحقائق أمامه حين اختار الرد بالقوة على ثورة ديمقراطية سلمية ليست معادية لروسيا ولا تهدد مصالحها الحيوية في أوكرانيا.
صحيفة الفيجارو تصف الردود الغربية على الغزو الروسي quot; الجزئيquot; بالباهتة، أو من باب رفع العتب. وهذا ما سوف يشجع روسيا، كما شجعتها وتشجعها المواقف الغربية في الأزمة السورية.
التطورات المسلحة في شبه جزيرة القرم، ذات الغالبية الروسية، هي، كما يظهر، مقدمة لسلخ المنطقة باسم إنقاذ الجالية الروسية وحقهم في الانفصال والسيادة،[ علما بأن الجزيرة تتمتع بحكم ذاتي]، وإلحاقهم بروسيا كما جرى في جورجيا. ولكن هل سوف يكتفي بوتين بهذا المكسب، لو تم دون حراك دولي فعال ورادع؟ أم سوف يلجأ أولا للعقوبات المالية والغازية، ويضاعف من الاستفزازات والتهديدات، واقتناص الفرصة لهجمات أكبر يجد ذرائع لها؟؟ وقد كان قرار برلمان كييف بإلغاء قانون اعتماد اللغة الروسية في شرق البلاد حيث جاليات روسية كبيرة خطأ كبيرا استغلته دعاية موسكو، التي ظلت تصف جماهير الثورة في ميدان كييف بالنازيين المسلحين والعنصريين.
لسنا قادرين على التنبؤ بالتطورات القادمة، التي قد تأتي سريعا، ولكن الواضح أن روسيا بوتين تمارس سياسة الحرب الباردة والقوة والتحدي، مستغلة تردد أوباما وثرثرات خطبه المتناقضة، وعجز الاتحاد الأوروبي وانقساماته وأزماته الاقتصادية والمالية، وشلل مجلس الأمن.
وسواء كان غزو القرم مؤقتا، وكاستعراض للقوة وإنذار، أم خطوة تسبق خطوات لاحقة، فإن لعب بوتين الخطرة، ومجازفاته، وغروره القومي، مع مواصلة مشاركته في المجازر السورية، وخطف مجلس الأمن، قد تنقلب عليه في مفاجآت محتملة، دولية، وأوروبية، وشرق أوسطية، وداخلية. من يدري!