الالتزام بالموضوعية في إصدار الأحكام يبدو مهمة عسيرة للغاية هذه الأيام. عادة ما تفصل أراؤنا الشخصية بيننا وبين الموضوعية وكثيراً ما تعيقنا عن العدالة وتدفعنا لبناء أحكام منحازة. كثيرون يصدرون أحكاماً مطلقة اعتماداً على انطباعات شخصية، وإذا طُلب منهم تقييم مسألة أو فرد أو جماعة، فإن تقييمهم هذا غالباً ما يكون مبنياً على قناعاتهم السابقة وليس على معطيات الأمر الذي يقيمونه. لكن قليلين هم من يلتزمون بالموضوعية ويعزلون أنفسهم عن قناعاتهم الشخصية ويصدرون أحكاماً متزنة وعادلة. تعد الأنظمة القضائية من أهم المؤسسات التي يفترض فيها الالتزام بالموضوعية وانتفاء الانحياز لطرف دون أخر. يرتبط مدى التزام القضاء بالموضوعية بمدى تطور الدولة ومؤسساتها ومدى تقدم المجتمع وتمتعه بالحريات العامة.
الالتزام بالموضوعية يفرض على كل إنسان عادل ومتسق مع نفسه أن يرفض حكم محكمة جنايات محافظة المنيا، بصعيد مصر، الذي صدر بالأمس وقضى بإعدام 528 متهماً إسلامياً في قضية العنف الذي ارتكبوه انتقاماً من المصريين بعد فض السلطات اعتصامي الإخوان المسلمين بميداني رابعة العدوية والنهضة بمحافظتي القاهرة والجيزة. الحكم، الذي أعلنه المستشار سعيد يوسف، غير مسبوق بكل المقاييس، وصدرحضورياً على 147 متهماً وغيابياً على 398. وبالإضافة إلى من صدر بحقهم حكم الإعدام، فقد تضمن أيضاً براءة 16 متهماً.
جاء الحكم المفاجيء صادماً للرأي العام بكل مستوياته المحلي والإقليمي والدولي للأسباب الآتية:
أولاً: جاء الحكم بعد جلستين فقط عقدتهما المحكمة، ولعل هذا يجعل من الحكم الأسرع في تاريخ المحاكم المدنية، ربما ليس في مصر فحسب، وإنما في العالم.
ثانياً: صدر القرار بحق عدد، ربما، غير مسبوق في قضية واحدة في التاريخ الحديث. إذا أخذنا في الاعتبار أن العالم شهد 682 حالة إعدام خلال عام 2012 كما تقول إحصائيات منظمة العفو الدولية، فإن 529 حالة إعدام في قضية واحدة يعد رقماً قياسياً أخراً.
ثالثاً: اتخذ القاضي قراره من دون أن يستمع لمرافعات دفاع المتهمين أو أقوال الشهود، ومن دون تقديم أدلة إثبات كافية تدين المتهمين، وهو ما يجعل الحكم جائراً وغير مقبول في مجتمع مدني يقول المسئولون فيه أنهم يسعون للتأسيس لدولة مدنية تقوم على العدل والمساواة وحقوق الإنسان.
رابعاً: القضية التي صدر بصددها الحكم هي أعمال عنف بمركز مطاي أسفرت عن مقتل رجل شرطة واحد في هجوم على مقر لقوات الأمن. من غير المنطقي على الإطلاق أن يصدر حكم بإعدام المئات في أعمال شغب أسفرت عن مقتل شرطي. هذا أمر ربما لم تعرفه البشرية من قبل، فحتى حادث المنصة الشهير عام 1981 الذي قتل فيه الرئيس الأسبق أنور السادات وعدد من كبار رجال الدولة لم يدفع ثمنه إلا خمسة إرهابيين كان على رأسهم خالد الإسلامبولي.
خامساً: صدر حكم الإعدام الجماعي في وقت تتجه فيه دول العالم لإلغاء العقوبة العظمى من قوانين العقوبات بها. تقول تقارير منظمة العفو الدولية أنه في عام 2012 لم تنفذ الحكم إلا واحدة وعشرين دولة.
أذهل الحكم كل المهتمين بـأمور حقوق الإنسان حول العالم بمن فيهم المؤيدين للنظام الانتقالي الحالي في مصر. صحيح أن عدداً من المنظمات الدولية لحقوق الإنسان تكيل بمكيالين في مسألة حقوق الإنسان عندما تعطي حقوق المجرمين والإرهابيين الأولوية فوق حقوق الضحيايا من المدنيين ورجال الشرطة والقوات المسلحة، إلا أن هذا لا يعد مبرراً للنظام المصري ليعطي ظهره للمجتمع الدولي بمؤسساته ومنظماته. مصر لا تعيش بمعزل عن العالم ولن تستطيع العيش منفردة للحظة واحدة. العالم يدرك هذا الأمر جيداً ولذا فهو لم يدع حكم المحكمة يمر مرور الكرام عليه. أعربت عدة دول ومنظمات دولية عن صدمتها وقلقها من الحكم وما يعنيه وما قد يترتب عليه. قالت منظمة العفو الدولية أن الحكم نموذج مضحك للطبيعة الفاشلة والانتقائية للنظام القضائي في مصر. من جهتها أدانت وزارة الخارجية الأمريكية الحكم وقالت أنه لا يمكن أن يصدر حكم عادل ينسجم مع المعايير الدولية بعد جلستين فقط عقدتهما المحكمة.
لا يختلف اثنان على أنه يجب توقيع أقصى العقوبات على ممارسي العنف من الإسلاميين أعداء الإنسانية وأعداء الوطن. هذا أمر مفروغ منه. الإسلاميون الذين يروِّعون ويرهبون ويقتلون بصورة جماعية الأبرياء من المواطنين ورجال قوات الأمن والقوات المسلحة لا يجب التهاون معهم تحت أي ظرف من الظروف. لكن كان يجب أن يُمنح المتهمون حقهم الإنساني الطبيعي في محاكمة عادلة تقرر العقوبات
المناسبة لهم بموضوعبة وبدون انحياز ومن دون تدخل الأجهزة السياسية والتنفيذية. إضافة إلى هذا فالحكم بالإعدام، برأيي، يجب أن يبقى خارج العقوبات المطروحة لأنه حكم غير إنساني يجب محوه تماماً من قوانين العقوبات المصرية.
ينظر الكثيرون من السياسيين المؤثرين حول العالم، عن جهل، إلى ما يحدث في مصر على أنه خلاف سياسي بين النظام الذي أفضت إليه ثورة الثلاثين من يونيو والإسلاميين المعزولين من السلطة. لا أحد من العارفين بحقائق الأمور يتفق مع هذه الرؤية لأن الإسلاميين انتفت عنهم الصفة السياسية وباتوا إرهابيين بعدما رفعوا السلاح ضد المصريين. غير أنه كان يتوجب على النظام الحاكم أن يكون أكثر حكمة في إدارة الأمور حتى لا يظهر كأنه الطرف الجاني والمعتدي على حقوق المعارضين الإسلاميين. في هذا الصدد ارتكب النظام الانتقالي أخطاءً عديدة منذ تولى السلطة في يوليو الماضي. لكن الحكم الهزلي السيء بإعدام 528 متهماً يعد الخطأ الأبرز لأنه غير عادل من ناحية ويسيء لمصر والنظام الذي نضع كل أمالنا للوطن عليه من ناحية أخرى.
النظام الحاكم، بتصرفاته غير الحكيمة هذه، يعطي القوى الأجنبية الفرصة لتصيّد الأخطاء له وللتدخل في شئون مصر. سيستخلص الكثيرون من الحكم بإعدام المئات من الإسلاميين من دون محاكمة عادلة أن النظام الانتقالي يضطهد المعارضة، ويحكم قبضته تماماً على سلطات الدولة المختلفة وعلى رأسها السلطة القضائية التي يفترض فيها الاستقلال. فمن يقبل بهذا؟