جلست على شاطيء البحيرة الجميل.. أتأمل حياة الشعب الأمريكي وقدرته ودولته على تجاوز الأزمات الإقتصادية الصعبة التي مرت بها أمريكا في السنوات الماضية حين توقع المنجمون أن تكون نهاية القوة الأمريكية المسيطرة على كل مفاصل العالم.
تقدم بإتجاهي رجل كبير السن تعكس ملامحه وجه رجل متعلم وخبير في شئون الحياة بشكل عام.. سلم علي وقال:
أنا الدكتور جيم , خبير في السياسة الدولية.. ثم استأذن أن يجلس معي لنتحاور قليلا. رحبت به وعرفته على نفسي وبدأنا الحوار:
الدكتور جيم: من ملامحك.. يبدو أنك من الشرق الأوسط.
قلت له: بكل تاكيد.
قال: أراك.. تتامل بعمق في وجوه الناس الذين يستمتعون بأجواء هذه البحيرة.
قلت له مازحا: شاعرنا العربي القديم يقول: أراك عصي الدمع.. شيمتك الصبر.
وعندما أتصرف في ذلك البيت الشعري أقول: أراك عصي السمع.. شيمتك القهر!
ضحكنا معا.. ثم أجبت على سؤاله بجدية.
قلت له: صحيح.. وأتساءل عن قدرة دولتكم وشعبكم على تجاوز المشكلات الإقتصادية التي كادت ان تعصف ببلدكم قبل سنوات قليلة.. وأرى ان إقتصادكم يتعافى برغم انني لست خبيرا في الإقتصاد.
قال لي: رأيك سليم.. ولكن ماهي من وجهة نظرك الأسباب التي جعلتنا نتجاوز الأزمات؟
قلت له: نظامكم الديموقراطي الديناميكي.. الذي يمنح الجميع حرية ان يشخصوا المشكلة وقت حدوثها بكل شفافية وصراحة ونقد , ومن ثم وضع الحلول المناسبة بدون تأجيل أو تأخير.
تتنوع الآراء في واقعكم وتختلف , لكن مصلحة امريكا تظل هي الغاية , فلا يحق لأحد أن يدعي إمتلاك الحقيقة.. ولا حرية التخوين والقذف.. وتتم محاسبة المخطيء والمقصر حسب ما يفرضه القانون الذي لا يملك أحد الحق أن يقسره كيفما يريد , وإنما يخضع الجميع لمقتضيات القانون وسلطته.
أيضا.. المؤسسات والأعمال يديرها العارفون , وليس المشعوذون!
قال لي: ولا تنسى أننا نملك مؤسسات ومراكز ابحاث وخبراء وإعلام يمارسون أعمالهم حسب المعايير العلمية تدعمهم الجامعات والمعاهد وسط الواقع الديموقراطي الذي يعطيهم حرية التفكير والنقد وطرح الحلول دون خوف من أحد.
ووضع جيم ساقه اليمنى فوق ساقه اليسرى.. ويده اليمنى تحت ذقنه وحدق في عيني قبل أن يشبعني درسا فلسفيا وهو يقول:
الديموقراطية بالنسبة إلينا: ثقافة وتربية قبل كل شيء.. وليست ديكورا تتخفى وراءه السلطة لتقمع الشعب مثلما تعمله بعض الأنظمة العالمثالية التي تحاول أن تقتبس منا الديموقراطية كديكور وليس كنظام مصدره ثقافة الشعب وتربيته التي تقدس حرية الرأي والإختيار ليكون الإنسان حقيقيا وصالحا.
قلت له: وهل هناك إنسان حقيقي وإنسان غير حقيقي؟!
ضحك ضجكة هستيرية وقال: بكل تأكيد.. الإنسان الحر إنسان حقيقي يعبر عن نفسه كما يجب أن تكون عليه تلك النفس من قدرات وصفات.. فيكون أقدر على العطاء والإبداع أكثر من غيره.
اما الإنسان.. همهم قليلا.. وأبتسم إبتسامة ساخرة وهو يتمعن في رجل شرقي ينهر طفله ويحتقره وهما يسيران على ضفاف البحيرة قبل أن يستمر في حديثه قائلا .. فهو إنسان تشوهت أعماقه بفعل التربية وثقافة الإستبداد التي يتشربها الشرقي كهذا الذي تراه يحتقر طفله منذ نعومة أظفاره.
لذلك فالإستبداد ثقافة شعوب وليس ثقافة أنظمة.
قلت له وكأنني ملكت منطقا أغلبه به: لكنك لاتستطيع أن تخالفني حول أن المستبد العادل حالة إستثنائية إيجابية؟!
وعاد يضحك كالمجنون حتى كاد أن يغمى عليه من الضحك.. وتساءل صارخا:
من قال لك أن هناك مستبدا عادلا؟!
فأما أن يكون مستبدا.. أو عادلا!
ومع شعوري بالورطة رددت عليه صارخا بعنف: هذا ماتعلمناه في التراث العربي!
شعر بورطتي وخجلي ثم هدأ من غضبي وقال:
مشكلتكم.. أنتم يامعشر العرب بالذات.. أن تراثكم يقودكم أكثر من دينكم.
قلت له: هااه.. كيف؟!
قال: تخضعون عقولكم لفكر التراث ثم تدعون أن ذلك التراث هو الدين ذاته , في الوقت الذي لو أصغيتم لما يقوله دينكم الحقيقي وليس المزيف لكنتم أكثر تحضرا وتمدنا وتحررا من قيود تراثكم وخرافاتكم.. ولما أصبح قطاع الطريق في بلدانكم يرشدونكم الى الجنة!
قلت له: افصح يا جيم.. عقلي يكاد أن يجن من الحوار معك.
قال: القيم الأخلاقية في كل الأديان حتى الأديان غير السماوية.. هي نفس القيم , لكنني أريد أن أخاطبك من معرفتي الخاصة بما يقوله دينكم في قرآنكم , كدليل أنكم أمة تخضع عقولها للتراث أكثر مما تخضعها للدين الذي تتحدثون بإسمه كأكثر الأمم ولا تطبقون شيئا منه.
مثلا: دينكم يقول: وقل إعملوا فسيرى الله عملكم.
أين العمل في واقعكم؟!
لو كنتم حقا تعملون لما كنتم شعوبا تستهلكون ما يعمله الآخر لكم وتعيشون عالة على الحضارة.
بينما نحن الذين نعمل.. فمن يكون المسلم والمؤمن الحقيقي هنا.. نحن أم أنتم؟!
دينكم.. يدعوكم كثيرا إلى التفكر واستخدام العقل (أفلا يتفكرون) (أفلا يعقلون).. وأنتم أكثر من يحارب التفكير واستخدام العقل , وتعلمون أولادكم بالتلقين الذي يمنع العقل من التفكر والتأمل والتخيل.
ونبيكم يقول: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه.
فأين الإتقان فيما تعملون؟
ويقول دينكم: أن النظافة من الإيمان... ولم أر أقذر من مدن العرب والمسلمين وشوارعهم وأحياءهم.
فهل في بلدانكم مدينة أنظف من هذه المدينة التي تسكن فيها وترى كم هي نظيفة في كل زواياها وبيوتها ومحلاتها وشوارعها؟!
فمادام أن دينكم يقول أن النظافة من الايمان: فمن يكون المؤمن الحقيقي هنا.. نحن أم أنتم؟!
أنتم مؤمنون شكلا.. ونحن المؤمنون قولا وفعلا!
وعندما شعر بإنهزام منطقي أمام حججه الدامغة.. إنتفض واستقام وقال:
أتدري ماهو الشيء الذي عملتموه بإتقان في شرقكم البائس وصدرتموه الى العالم بكل جدارة؟!
قفزت إليه مقتربا أكاد أن أقبل جبهته على طريقة المرحوم أبي عمار.. قلت له مزهوا وقد أحسست أنني حققت شيئا من الإنتصار عليه كونه تذكر شيئا غائبا عن باله.. قل قل قل يا جيم.. ماهو ذلك الشيء؟!
قال :
تقطعون الرؤوس البريئة وتبدعون في تصويرها بإستخدام اليوتيوب ووسائل الإتصال التي صنعناها لكم.. بل أن التاريخ يسجل في صفحاته أنكم أول من لعب كرة القدم بالجماجم.
تنتصرون على بعضكم.. وتنهزمون أمام أضعف عدو يحاربكم.
وحوش.. في ميادين القتال عندما تكونون أعداء بعض.. ونعام أمام عدوكم الخارجي.
ربكم يخاطبكم على لسان نبيكم (وما أنا بظلام للعبيد) ويؤكد لكم انكم من تظلمون أنفسكم (وماظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
&قلت له مستغربا: هل أنت مسلم .. أنت على إطلاع تام بالقرآن الكريم؟!
قال: أنا مؤمن حقيقي بالله , لأنني آمنت بالعدل والجمال والحق والحرية.. فأحترمت كرامة الإنسان أولا ولم أعتنق فكرا يقول لي: أن الجنة تقبع خلف الدماء المسفوكة!
شكرني وودعني دون أن يدعوني للتعرف عليه بشكل يعمق العلاقة بيننا وتركني على ضفاف البحيرة.. أردد أبياتا من الشعر العربي وأخاطب شبحا أتخيله يحول بيني وبين البحيرة:
تركتني حيران صبا هائما.. أرعى النجوم وأنت في عيش هني
والله لأقعدن على الطريق وأشتكي.. وأقول مظلوم وأنت ظلمتني
ولأدعين عليك في غسق الدجى..يبليك ربي مثلما أبليتني !
[email protected]&&
&