التفجيرات التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس يوم السبت الرابع عشر من نوفمبر الحالي ، حصدت أرواح 129 شخصا وأوقعت ما يزيد عن 325 جريحا بعضهم اصاباتهم خطيرة ومعرضين للإنضمام لقائمة الموتى. هذه التفجيرات الدموية أعلنت "داعش" رسميا بالصوت والصورة مسؤوليتها عنها، وتسمية داعش الرسمية من خليفتها " الدولة الإسلامية في العراق والشام " ، وهذا يعني أنّ الدواعش ارتكبوا هذه المجازر بإسم الإسلام حسب تسميتهم ، وكون هذه الجرائم الداعشية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة ، لذلك ما عاد ينفع ولا يعفي المسلمين الاستمرار في ترديد اسطوانة: "أنّ هذه الجرائم لا تمتّ للإسلام& بصلة ". فأناس يكرّرون هذا القول وأناس دواعش يستمرون في ارتكاب هذه المجازر بإسم الإسلام وفي كل مجزرة يوردون في بياناتهم آيات من القرآن وأحاديث للرسول محمد " ص ". ومن الملاحظ أنّ كافة ردود الفعل على هذه المجازر الدموية البشعة في العالم ألأوربي والأمريكي والآسيوي والأفريقي كانت ادانة واضحة ورفضا قاطعا لهكذا مجازر وابادة همجية، ولم أسمع أو اقرأ تأييدا واحدا لهذه المجازر في تلك القارات من دولها وشعوبها.
فكيف كانت ردود الفعل العربية؟
أولا: الغالبية العظمى من الحكومات والمسؤولين السياسيين والشيوخ والمؤسسات الدينية والحركات الإسلامية ومنها حركة حماس الفلسطينية والكتاب والمثقفين العرب، أدانوا مجازر باريس بقوة وصراحة واضحة ، ومع بعضهم الحق كل الحق في ادانتهم أيضا للإزدواجية العالمية خاصة من الدول الكبرى والصغرى التي أدانت مقتل 19 شخصا في باريس وتسكت منذ عقود على عشرات ألاف القتلى الفلسطينيين جراء الغارات والاجتياحات الإسرائيلية المتكررة التي قتلت في اجتياح ديسمبر، يناير 2014 وحده أكثر من 2500 قتيل والاف الجرحى وتدمير شبه كامل للبنية التحتية في قطاع غزة. وكذلك مئات ألاف القتلى وملايين المهجرّين من الشعب السوري نتيجة جرائم وحش البراميل المتفجرة طوال قرابة خمس سنوات، حيث كل هذه الجرائم لم تجعل الدول مدّعية الحرية والديمقراطية أن تعمل على ازاحة هذا الوحش من كرسي الحكم المتسلط طوال 46 عاما هو و والده. الوحيدة التي لم تسكت وتملكت كعادتها شجاعة فائقة لربط تصاعد العنف في العالم بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي هي وزيرة خارجية السويد السيدة " مرجوت وولستروم " ، في لقاء مع التلفزيون السويدي الرسمي " اس. في . تي " يوم الإثنين السادس عشر من نوفمبر 2015 ، قالت : " لدينا بكل وضوح أسبابا تدعو للقلق ليس هنا فقط في السويد لكن أيضا حول العالم لأن هناك أشخاص كثيرون يسلكون طريق التطرف... وهنا نعود إلى مواقف مثل تلك التي في الشرق الأوسط حيث لا يرى الفلسطينيون على وجه الخصوص أدنى مستقبل لهم بل يتعين عليهم إما أن يقبلوا وضعا يائسا أو يلجأوا إلى العنف " . وبالطبع فهذا السياق على لسان الوزيرة ينطبق على ألاف من الشباب اليائسين الذين لا فرق بين حياتهم والموت ". إذ " يتعين عليهم أن يقبلوا وضعا يائسا أو يلجأوا إلى العنف ". وفورا قامت الخارجية الإسرائيلية باستدعاء السفير السويدي للإحتجاج على تصريحات الوزيرة السويدية تماما كما احتجت عند اعتراف الوزيرة السويدية وحكومتها بدولة فلسطين. إذن الغالبية العربية شعوبا ومؤسسات وحكومات وتنظيمات أدانت هذه الجرائم البشعة بحق أبرياء فرنسيين ، مما يعني أنّ هذه الأغلبية ترفض أية جرائم مشابهة بحق أي مدنيين من أية جنسية أو ديانة.
ثانيا: قلة من الأفراد ربما لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، كتبوا معلنين تأييدهم لهذه العمليات ، مستذكرين ورابطين هذه الجرائم الحالية بالجرائم التي ارتكبها الإستعمار الفرنسي في الجزائر طوال ما يزيد على 130 عاما حيث قتل هذا الإستعمار بوحشية أكثر من مليون مواطن جزائري وتعرض السجناء منهم إلى صنوف تعذيب علني همجي بكل المقاييس ، معتبرين أنّ ما حدث في باريس والقتلى عدد لا يذكر قياسا بقتلى الاستعمار الفرنسي في الجزائر وحدها، وبالتالي كما كتب أحدهم في الفيس بوك ( العين بالعين والسن بالسن ). وأنا أرى أنّ هذه الحجة وهذا الربط بين جرائم الإستعمار الفرنسي قبل عشرات السنين و جريمة باريس قبل أيام حجة غير منطقية وربط غير عقلاني ، لأنّه يحمّل مسؤولية جرائم الإستعمار الفرنسي الذي انتهى مهزوما قبل ما يزيد على نصف قرن للأجيال الفرنسية الحالية التي أغلبها ولد في سنوات ما بعد انتهاء هذا الإستعمار، ويكفي قول الله تعالى : " ولا تزرو وازرة وزر أخرى " ويقول الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي في شرحه لمعنى ومغزى هذه الآية مذكّرا بوضع إمرأتي النبيين نوح ولوط : (ولا تزر وازرة وزر أخرى، أي الوازرة النفس لا تحمل حمل غيرها، كل إنسان محاسب عن عمله، مسؤول عن خطئه. من أشد العلاقات متانةً، من أشد اللقاءات قوةً الزوج وزوجته، ومع ذلك الزوج نبي والزوجة لم تؤمن بدعوة النبي، فزوجها، وأقرب الناس إليها، وأشد الناس قرباً منها لا يستطيع أن يمنعها من عذاب الله عز وجل ). اي أنّ نبوة الزوجين لن تمنع عن الإمرأتين عقاب الله تعالى، فكل شخص مسؤول عن عمله خيرا أو شرا، و هذا يؤكد القول أنّ الأجيال الفرنسية الحالية لا يمكن تحميلها بأي منطق مسؤولية جرائم الإستعمار الفرنسي الذي استمر 132 عاما، وانتهى منسحبا مهزوما قبل ما يزيد على نصف قرن.
وهل كان كل الشعب الفرنسي مؤيدا للإستعمارالفرنسي؟
ولن أجيب على هذا السؤال من طرفي مباشرة، إذ يكفي ذكر بعض المعلومات والحقائق المهمة نقلا عن دراسة نشرتها جريدة" المساء، جريدة وطنية جزائرية" بتاريخ العاشر من نوفمبر 2014 بعنوان ( منهم فرنسيون ومناضلون من مختلف دول العالم ..أصدقاء الثورة الجزائرية السند الآخر للقضية ). ومن معلومات هذه الدراسة ما يجهله ربما كثيرون خاصة في دول المشرق العربي، التي اعتمدت فيها الجريدة على معلومات المحامية والباحثة الجزائرية في الشؤون الإستعمارية السيدة " فاطمة الزهراء بن براهم " وهي من تبنت من سنوات ملف أصدقاء الجزائر، حيث تقول: " من أبرز صور المساندة تلك التي جاءت من أبناء جلدة المحتل ذاته: مثقفون، أطباء، سياسيون، وحتى جنود فرنسيون، كلهم رفعوا شعار " الجزائر جزائرية " وشقّوا رفقة مناضلين من جنسيات مختلفة طريقا للحرية والعدالة. ولم تنس جزائر الإستقلال ما قدّمه أصدقاء الجزائر من الفرنسيين إبان الثورة التحريرية، فأهدت لهم الوطن وقيّدت أسماءهم في السجلات البطولية لأفراد الشعب الجزائري ". وتذكر الدراسة أسماء كثيرين من هؤلاء المناضلين الفرنسيين مع ثوار الجزائر ومنهم الفرنسي " فرنان ايفتون " الذي أعدمته السلطات الفرنسية عام 1956 . وأيضا توثيق التحاق 1073 جندي فرنسي بالمجاهدين الجزائريين. ومن ينسى مواقف الفيلسوف الوجودي الفرنسي "جان بول سارتر " الرافضة للإستعمار الفرنسي والداعمة لكل من يرفض هذا الإستعمار...لكل هذه الوقائع المثبتة من مصادر وطنية جزائرية، بأي منطق أو عقل يمكن أنّ يحمّل البعض الشعب الفرنسي اليوم مسؤولية جرائم فترة الإستعمار المرفوضة والمدانة ، وبالتالي يستخدم هذه الجرائم لقتل أبرياء فرنسيين اليوم؟ ومن يدرينا فربما بعض أبناء أو أحفاد أو اقارب هؤلاء المناضلين الفرنسيين من ضمن إل 129 قتيلا و 325 جريحا؟.
وأمثلة أخرى من عدة دول،
&هل يوافق هؤلاء المؤيدون لجرائم باريس وتبريرها بجرائم الإستعمار الفرنسي في الجزائر قبل أكثر من نصف قرن ، الاقتصاص من الشعب العراقي اليوم بسبب الجرائم التي ارتكبها صدام حسين ونظامه خاصة ضرب مدينة حلبجة بالسلاح الكيماوي وابادته ألاف من القومية الكردية؟. أو هل يمكن أو يقبل اليوم الاقتصاص من الشعب الأمريكي بسبب ابادة الهنود الحمر بعد اكتشاف أمريكا عام 1492 ؟ و أية مجموعة أو فئة من الشعب الأمريكي اليوم تتحمل مسؤولية تلك الإبادة الجماعية كي يمكن معاقبتهم اليوم؟ هل هم الأمريكان من أصل بريطاني أو فرنسي أو أسباني أو أفريقي...؟. والحالة الأكثر صعوبة في نقاشها هي حالة الوجود العربي في اسبانيا ( الأندلس لاحقا ) الذي بدأ عام 711 ميلادي واستمر قرابة 800 عاما لينتهي مهزوما ومطرودا عام 1492 وهو بالصدفة نفس عام اكتشاف القارة الأمريكية. هناك من يعتبرون خاصة من العرب والمسلمين هذا الغزو العربي " فتحا إسلاميا " ، وطرف آخر أسباني ومعه عرب يرون أنّ ذلك كان احتلالا تمّ فرض الإسلام واللغة العربية بالقوة، بدليل استمرار الأسبان المسيحيين يخططون ويعدّون سرا وعلانية إلى أن تمّ لهم طرد ذلك الإحتلال. وبالتالي هل العرب اليوم بعد انتهاء ذلك الفتح أو الإحتلال قبل 523 سنة مسؤولين عمّا تمّ ارتكابه في ذلك الوقت، ومنه تحويل كاتدرائية قرطبة إلى جامع ولاحقا نفس الفعل مع كاتدرائية " أيا صوفيا " في مدينة إسطنبول التركية التي استمرت كاتدرائية مسيحية طوال 916 سنة، ثم تحويلها إلى جامع في عهد السلطان محمد الفاتح عام 1453 ليتم تحويلها إلى متحف عام 1935 ...فمن من الأتراك أو العرب مسؤول اليوم عن تلك التعديات من وجهة نظر الكثيرين؟. وكذلك قام الأسبان بعد طرد الغزو أو الوجود أو الفتح أو الإحتلال العربي عام 1492 بارتكاب عمليات قتل جماعية وطرد جماعي للعرب والمسلمين واليهود ايضا حيث فرّت غالبية اليهود آنذاك إلى بلاد المغرب العربي...فمن من الأسبان اليوم مسؤول عن تلك الجرائم التي حصلت قبل 523 سنة؟
لذلك فجرائم باريس اليوم وكل ما يشبهها،
في أية دولة وضد أي شعب أو ديانة أو طائفة هي جرائم مرفوضة مدانة في رأي الأغلبية العربية والمسلمة والأوربية والأمريكية وكافة الدول والقارات، ولا يمكن منطقيا قبول رأي الأقلية النادرة جدا بتبرير هذه الجرائم بشكل غير مباشر من خلال ربطها بجرائم سابقة تمّ ارتكابها قل عشرات أو مئات السنين.
www.drabumatar.com
&
التعليقات