في بداية شهر مارس كل سنة يعطل أولادي من المدرسة لمدة أسبوع. وعندما اقترب موعد العطلة هذه السنة بدأت بالتخطيط لها. الكثير من الناس هنا يحاولون أن يهربوا من صقيع كندا إلى أماكن أكثر دفئا. وبما أننا لم نكن ننوي السفر حاولت أن أفرّغ جدولي الشخصي لأملأه بجدول الأولاد لكل الأسبوع وكتبت لائحة بالنشاطات المناسبة. سنستغل اليوم الأول في ترتيب غرفهم والأيام التالية ستكون مليئة بأشياء مثل رحلة إلى متحف أو إثنان وزيارة لحديقة الحيوان وربما زيارة إلى معرض رسم. جمعتهم وأخبرتهم عن مخططاتنا التي لا شك سنستمتع بها أنا وهم. أعجبتهم بعض الاقتراحات مثل زيارة حديقة الحيوانات وغمغموا بعض الأشياء غير المفهومة عن المتحف والمعرض وتظاهرت بأنني لم أفهم ثم انتقلت إلى إلقاء محاضرتي عن أهدافنا للأسبوع. "لا نريد أن نقضي الإجازة أمام التلفاز والكمبيوتر." حاول ابني أن يقول "وما المانع؟" ولكنني تابعت "نريد أن نجدد نشاطنا لنعود للدراسة ونحن متحمسين ومشتاقين للمدرسة. نرى فن وتاريخ وآثار لنحرك أدمغتنا وخيالنا ومن الجيد أن نخرج من البيت ونعمل مشاوير لتغيير الروتين المعتاد أيام المدرسة." وأضفت "طبعا سنتسلى في المساء أحيانا بقراءة القصص وأحيانا بمشاهدة فيلم." ولكن لم تكمل فرحتهم بخبر التسلية لأنني أكدت لهم أن دروس العربي ستكون مكثفة في العطلة. وقلت لهم أن أوقات النوم ستبقى كما هي وألا يحاولوا أن يطلبوا السهر لوقت متأخر.
وفي اليوم الأول من العطلة حاولت أن التزم بجدولي المنظم فقمنا ببعض الأعمال المنزلية والترتيبات وأخذوا حصتهم من الدراسة أيضا وفي المساء قلت بما أنه أول يوم نشاهد فيلما للتسلية. وشاهدنا أول فيلم من سلسلة أفلام هاري بوتر. الولد الساحر اليتيم الذي يذهب لمدرسة داخلية لتعلم السحر ومغامراته هناك. الفيلم كان جميلا وشيقا لدرجة أننا كسرنا قانون السهر منذ اليوم الأول لأنه حتى أنا نفسي لم أكن أريد التوقف عن المشاهدة.
في اليوم الثاني قضينا صباحا مسترخيا بسبب السهر في اليوم الذي قبله وفي منتصف النهار طلب الأولاد أن يشاهدوا الفيلم الثاني لهاري بوتر. حاولت أن أقترح المتحف ولكنني لم أستطع إقناعهم لأنني لم أكن أريد الذهاب أنا أيضا. درجات الحرارة في الخارج كانت في حدود الناقص ثلاثين—نعم، تحت الصفر. ومن يريد أن يَلبس ويُلبّس الأولاد ملابس الشتاء والتي هي أقرب لملابس رواد الفضاء في الوقت الذي نستطيع فيه بكل سهولة أن نبقى في دفء بيتنا. وضعت لهم الفيلم وأنا أشعر أنني أخون لائحة النشاطات التي وضعناها وأنني أكسر قوانيني التي وضعتها عن عدم قضاء العطلة أمام التلفزيون.
الفيلم الثاني كان أجمل وأشد تشويقا من الأول ولأنه طويل جدا أكملناه في السهرة التي امتدت لما بعد وقت النوم. مع اليوم الثالث كان من الواضح أن عطلتنا لم تكن تنحو المنحى الذي خططت ورسمت له. تغدينا يومها بسكويت مع بعض الحلويات أمام التلفاز مع هاري وأصدقاءه وكان إ¬¬¬حساسي بالذنب لا يقاس. اليوم الرابع والجو كان ما يزال أبرد من القطب الشمالي أسدلت الستائر في منتصف النهار حتى تكون الشاشة أوضح ما يكون وناديت الأولاد: "هيا يا شباب! حان وقت هاري بوتر." على الأقل يومها تغدينا بعض السندويشات بدل البسكويت. لكن الجديد هذه المرة كان أنني لم أعد أشعر بالذنب. أدركت يومها ولباقي الأسبوع أننا أحيانا يجب أن نستمع لصوت آخر غير صوت العقل والتخطيط، وأن نلحظ العلامات التي تدلنا على ما هو أنسب لنا في هذه اللحظة.
صحيح أنني لم ألتزم بالمخطط وأنني كسرت القواعد والقوانين التي وضعتها بنفسي. ولكن في المقابل حدثت محادثات جميلة لم تكن لتكون لولا هذه الأفلام عن مفهوم الشجاعة، والصدق والصداقة، وعن قوة الحب. وطبعا إن كان السحر موجودا في العالم. أحيانا نشعر أننا نعمل شيئا مهما للأولاد لأننا نلبس وننشغل ونذهب ونبذل الوقت والجهد والمال في حين أن هناك أشياء أجمل مثل أن نجلس معا تحت بطانية واحدة ونحن خائفون مما سيفعله الأشرار في فيلم شيق ونحن نتغدى على البسكويت. الآن وبعد انتهاء العطلة أشعر أنني قضيتها بأجمل طريقة ممكنة.
كم من الأشياء في الحياة كهذه العطلة؟ قصتي مع عطلة أولادي بسيطة ورمزية ولكنها جعلتني أفكر في إسقاطاتها على باقي حياتنا. نخطط وننظم ونرتب ونعتقد أننا ملمون بكل ما هو أصح وأفضل لنا. نركض ونتدافع ونحن نحاول تحقيق مخططاتنا. نريد عملا معينا ونعتقد أنه الأفضل والأنسب لنا، ونلحق به ولو أن العلامات كلها تشير نحو مكان آخر. بل يمشي بعضنا أحيانا في طريق الحياة الذي رسمه لنا الغير من أهل ومجتمع بدون أن ننظر إلى الأشياء التي تعطينا السعادة فعليا.
يعيش الإنسان في وهم كبير. نظن أننا نحكم السيطرة على خياراتنا ومخططاتنا ومستقبلنا. ولكن لا يوجد شيء أكيد غير الموت. تنهار ميزانيات وتقصف مدن، وتهجر عائلات. وحتى في أمكان السلام النسبية للحياة نبضها وتقلباتها. لذلك مخططاتنا وأحلامنا ليست بيدنا.
ويبقى السؤال، هل نتوقف عن ملاحقة أحلامنا؟ ليس هذا أيضا بكل تأكيد ولكن الفكرة هي أن نترك مساحات، ولو صغيرة، لله والكون لعلامات طريق وإشارات، وأن نترك لحكمة الحياة دفعنا بلطف أحيانا وأحيانا ربما بقسوة إلى المكان الذي يلزمنا أكثر. يقول جلال الدين الرومي إننا دائما في المكان المناسب أينما كنا لأنه لا يوجد أخطاء في الكون الذي خلقه الله وأنت هنا لأنك يجب أن تتعلم وتنمو لتصل إلى مكان آخر. لذلك إن وجدت نفسك والأقدار تدفعك باتجاه مختلف عما كنت تعتقد أنك خططت له فاسمح لها بذلك لترى أين ستأخذك. فربما تتحول اجازتك من إجازة متعبة كلها ركض بين المتاحف والمعارض في صقيع قطبي إلى إجازة دافئة ملؤها الحلويات والحب والمغامرة والسحر طبعا. وربما الحياة كلها إجازة ونحن ضيوف، وعلينا الامتنان أكثر لكل تجاربنا، ما خططنا لها وما لم نخطط.&
- آخر تحديث :
التعليقات