ما حدث في أنقرة واستانبول وبقية مدن الدولة التركية إزاء الانقلاب الأخير اثبت إن تلك الثقافة قد انتهت بفعل أهالي تلك الدولة التي أغلقت أبوابها أمام أي نزعة انفعالية لمجاميع من العسكر لتغيير نظام الحكم والاستيلاء على السلطة بقوة الدبابات والطائرات، كما حصل في صبيحة 14 تموز 1958م ولأول مرة في تاريخ الكيان الذي صنعه وزير خارجية بريطانيا وقرينه الفرنسي بيكو، حصل استحواذ على السلطة في دهاليز الليل وإسقاط النظام الملكي الدستوري في انقلاب أباد العائلة الحاكمة، وبشر الأهالي بيوم ومستقبل جديد على أنقاض حكم ( رجعي متخلف ) كما تم توصيفه يومذاك، ولم تر الأهالي في بلاد ما بين النهرين يوما سعيدا في حياتها بعد ذلك الانقلاب إلا مغمسا بالدماء والدموع والحروب.

في تركيا ارث ثقيل من الانقلابات الحمقاء، حالها حل السودان وليبيا والعراق ومصر واليمن وتونس وسوريا وإيران وبقية دول التخلف السياسي في العالم من أسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي أضاعت فرصة خيالية لتقدمها لولا تلك الانقلابات العاطفية التي قادتها مجاميع انفعالية من العسكر والحرانية.

في مصر ربما كان الانقلاب الأخير فيه بعض من دواء لمعالجة مرض اجتماعي وفكري يتسيد على السلطة، لكي يحيلها إلى منبر من منابر مساجد القرى وخطبائها، وفي إيران أيضا وقبل ما يقرب من أربعين عاما، ضرب الأهالي نمطا من الالتحام بالانقلاب الخميني لا مثيل له في الشرق، إلا اللهم ما حصل في ثورة أكتوبر الشيوعية في روسيا، فقد اندفع أهالي طهران وبقية المدن أمام دبابات الشاهنشاه وطائراته وعسكره كما فعل الأتراك في انقلاب العسكر الأخير، وأحالوه إلى أضحوكة وربما إلى خاتمة لتلك الثقافة السلوكية اللصوصية المقيتة.

لقد دفعت شعوب الشرق عموما وكثير من شعوب امريكا اللاتينية وافريقيا ثمنا باهظا لتلك الثقافة اللصوصية التي استغفلت الأهالي بشعارات غرائزية تداعب أوتار الطبقات الفقيرة والعامة من السكان، كما شهدنا في&انقلابات سوريا والعراق واليمن ومصر وتركيا وايران والسلفادور وشيلي والعديد من دول التخلف الاجتماعي والسياسي في العالم، ولعل مشاهد الانقلابات العراقية المأساوية وما تلاها لم تختف بعد من ذاكرة الاهالي، وكذا الحال في كل بلدان اللصوصية الانقلابية المغلفة بشعارات غرائزية تداعب مشاعر الأغلبية الساذجة والبسيطة من الأهالي.

وبعيدا عن من يؤيد اردوغان أو يعارضه وهم كثر بطبيعة النظام الديمقراطي في تركيا وتجربتها الرائدة في بناء مجتمع مدني محترم، رغم فشلها لحد الآن في حل مشكلة المكونات القومية التي تشكل واحدة من اخطر التحديات أمام تقدمها، إلا وهي القضية الكوردية والارمنية في تركيا، حيث لا تزال هذه الدولة ممنوعة من ولوج العالم المتحضر بسبب صيغة تعاملها مع القضيتين، ورغم ذلك فان أغلبية الأهالي الذين خرجوا لنصرة الديمقراطية ورفض الانقلاب كانوا من الكورد ومن أرمن ومن بقية الأعراق في اسطنبول وأنقرة وبقية مدن أسيا الصغرى!

لم أكن أتمنى أن أرى الرعاع ثانية يستخدمون غرائزيتهم في الانتقام كما حصل في انقلاب تموز الأول في العراق، أو في مقتل القذافي في ليبيا، أو ما حصل في بقية دول التخلف السياسي الأخرى، كتلك المشاهد المؤذية التي رأيناها، وهي تجلد جنود الدولة التركية المأمورين بتنفيذ أوامر قادتهم اللصوص، وباستثناء تلك المشاهد فإننا حقيقة نرفع القبعة لشعوب الدولة التركية، التي كانت تسمى ( آسيا الصغرى ) بمختلف أعراقهم وأديانهم وتوجهاتهم السياسية، حيث شهدنا رفضهم لثقافة الانقلاب التي نجحت تركيا بإغلاقها وإلغائها تماما من قاموس الحكم في هذه الدولة التي تعمل ليل نهار لتنافس شرقيا أنظمة أوربا المتمدنة حضاريا.

فعلا كما قال سياسي كوردستاني إن أسوء نظام ديمقراطي أفضل من أي حكم دكتاتوري مهما كان! وقد أثبتت شعوب تركيا في ديار بكر واسطنبول وأنقرة وبقية المدن صحة هذا الخيار الشعبي المتمدن.

&

[email protected]