لم يكن معظم ماورد في إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن "صفقة القرن" بخصوص القضية الفلسطينية مفاجئاً للكثيرين، فأمور مثل وضع مدينة القدس والمستوطنات واللاجئين وحدود الدولة الفلسطينية المقترحة معروفة للجميع، أو على أقل التقديرات يبدو الموقف الأمريكي حيالها معروف مسبقاً وبشكل رسمي، لاسيما منذ إعلان الرئيس ترامب قرار نقل السفارة الأمريكية والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وإذا أضفنا إلى ذلك حديث الرئيس ترامب المتكرر عن مساندته ودعمه المطلق لإسرائيل، والتسريبات الاعلامية المتكررة للغاية حول محتوى "الصفقة"، فإن الأمر يبدو واضحاً ومتوقعاً، والاشكالية لا تصبح في الاعلان بحد ذاته، بل في كيفية التعاطي الفلسطيني والعربي مع الموضوع منذ بدايته، فلا يجب اغفال حقيقة أن استمرار وتعمق الانقسام الفلسطيني بل وغياب البوصلة عن التنظيمات والقيادات الفلسطينية قد تسبب فيما آلت إليه الأحوال.

لا يجب أن تراهن القيادات الفلسطينية على فكرة التنصل من مسؤولية استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينية والقاء العبء على الأنظمة والحكومات والشعوب العربية في وقت يدرك فيه الجميع حجم التحديات المتفاقمة التي تواجه النظام الاقليمي الجماعي العربي، والتحديات الاستراتيجية الضخمة التي تواجه دول عربية محورية كان ولا يزال لها الثقل الأكبر في إدارة الملف الفلسطيني.

علينا أن نتذكر جيداً أن سيناريو الصفقة كان مطروحاً منذ سنوات مضت ولم يحرك هذا التطور الكبير ساكناً في الصف الفلسطيني، ولم يكن باعثاً أو دافعاً من أجل وحدة الصف والكلمة والقفز على الخلافات بين التنظيمات والقيادات الفلسطينية سواء في الداخل أو الخارج، بل استمرت الخلافات وفشلت كل الجهود العربية المبذولة من أجل رأب الصدع وإذابة الخلافات وما زاد الطين بلة أن بعض القيادات الفلسطينية قد ازدادت ارتماء في أحضان نظام الملالي الايراني واستمر رهانها عليه متجاهلة الحاضنة الطبيعية العربية للقضية طيلة تاريخها.

لم يطلب أحد أن يقوم الفلسطينيون بمهمة تسوية قضيتهم بأنفسهم ومن دون دعم عربي مباشر وقوي، ولكن على الأقل كان لزاماً عليهم تهيئة البيئة المناسبة لهذا الدعم واعداد البدائل والمقترحات اللازمة للوصول إلى تسوية عادلة وشاملة للقضية واعداد استراتيجية متكاملة للتعاطي مع تطورات حيوية خطيرة كانت معلومة سلفاً بدلاً من التفرغ للحروب الكلامية والصراعات العبثية، ثم الاعتماد ـ مع سبق الاصرار والترصد ـ على الشعارات والخطاب الاعلامي المتكرر في الرد على إعلان الصفقة الذي يمثل أحد أهم منعطفات القضية الفلسطينية في تاريخها.

الواضح من ردود الأفعال الداخلية أن الشعب الفلسطيني ذاته قد فقد الثقة في قدرة النخب السياسية الحالية على تحقيق تطلعاته المشروعة في بناء دولته المستقلة، وإعلان الصفقة ليس حدثاً مفاجئاً وما يحدث هو ترجمة لما شهدته منطقتنا من تطورات وتغيرات استراتيجية متسارعة وعميقة منذ عام 2011 وحتى الآن، ومن ينتقد محتوى صفقة القرن عليه أن يتذكر أنها ليست سوى اقرار لواقع صدرت به مواقف وقرارات منفردة، ولم تواجه سوى بمواقف إعلامية وسياسية صاخبة سرعان ماتلاشى أثرها بمرور الوقت.

يجب أن تعترف النخب الفلسطينية، لاسيما من يسمون بقادة المقاومة وتنظيماتها وحركاتها وجماعتها، قبل غيرهم، بالفشل في التعاطي مع القضية وتطوراتها، والانغماس في صراعات شخصية وتصفية حسابات لا ناقة للشعب الفلسطيني فيها ولا جمل، بل والارتماء في أحضان أنظمة عواصم معادية لكل ماهو عربي، وتتاجر بالقضية ويستغلها قادة هذه الأنظمة لتحقيق مكاسب دعائية.

صحيح أن النظام الجماعي العربي يعاني منذ انتشار الفوضى والاضطرابات عام 2011، حالة ضعف استراتيجية غير مسبوقة كانت ولا تزال من الأسباب والعوامل التي تغري بالافتئات على قضية العرب المركزية، ولكن هذا الوضع العربي لا يبرر الارتماء في أحضان عواصم لديها مطامع واضحة في أرض وموارد عربية! فلن يغامر السلطان أردوغان بمصالحه من أجل عيون الفلسطينيين ولن يترك أطماعه في غاز المتوسط من أجل نصرة القضية الفلسطينية كما يعتقد الواهمون ومريديه في الحركات والتنظيمات الفلسطينية، والأمر ذاته ينطبق على ملالي إيران، الذين يبحثون عن "الصفقة" مقابل "الصفقة"، ولو وجدوا مايريدون من البيت الأبيض فلن يسمع لهم صوتاً حول الفلسطينيين وقضيتهم التي تحولت إلى ورقة ابتزاز ودعاية وخداع العقول بيد الملالي!

الواضح للعيان أن صفقة القرن قد لا تكون بالون اختبار ولن تسقط أو تنتهي بالتصريحات والشعارات كما نقرأ في تصريحات البعض، بل هي تطور نوعي فارق يستحق الاهتمام والمتابعة من أجل الحد من آثاره ولجم عواقبه، والأمر يتطلب جهوداً سياسية جادة ومدروسة ومسؤولة للتعامل مع هذا المنعطف التاريخي في مسيرة القضية الفلسطينية، وإدارة هذه الأزمة بكثير العقل والحكمة بعيداً عن العنتريات والشعارات الجوفاء والمتاجرين بالقضية.