عن مصطفى الكاظمي ربما سمعتم وشاهدتم و قرأتم الكثير خلال الأيام الماضية... لعلّ البعض حينها دفعه فضوله الى أن يعرف أكثر عن هذا الرجل الذي وصفته بعض التقارير بأنه رجل الظلّ الأقوى في العراق أو ربما جذبت البعض الآخر سيرته الذاتية التي تضمّنت نشاطه الحقوقي في مجال توثيق جرائم ضدّ الانسانية. ولعلّ اجماع الكثيرين حول مهاراته و تمرّسه بالوساطة السياسية وبروزه كمفاوض بارز في حلّ النزاعات و الأزمات على الصعيد المحلي والاقليمي والدولي هي احدى السمات الأكثر جاذبية لهذا الرجل. أما أنا فسأخبركم عن هذا الرجل ما لا يعرفه الكثيرون. فهو صديق مقرّب منذ فترة طويلة بحيث عرفت عنه هذه الجوانب التي تبقى في الظلّ فقط..

ان أردت أن أصف مصطفى الكاظمي بجملة واحدة أقول هو رجل مقوقع في غربته يبكي على الاطلال و يحلم بوطن.

غربة مصطفى هي ليست غربة مكان بل هي غربة من نوع خاص، غربة في أحضان الوطن. غربة يشعر بها الانسان أنه يعيش في زمان غير زمانه بحيث لا يجد من يتحدث اليه أو يشاركه أوجاع غربته أوحتى يتفهم أنه بات يحتوي غربته ويؤسس لعلاقة غير مفهومة معها. غربته هي الهروب من واقع العراق المرير الذي يؤلمه لحدّ اللعنة. غربته هي الألم من أنين الذكريات، هي الظلم والفساد و الجهل و التخلف.. غربته هي عدم الاحساس بالانتماء لأي مكان او زمان.

أما وطن مصطفى فكذلك لا يشبه الأوطان... وطنه هو تلك المساحة العابئة برائحة الانسانية المفقودة، تضيئها شموع يتطاير منها دخان معطّر بالتسامح ويشيع في جوّها احساس بألفة نادرة مغلّفة بقيم المحبة الحقيقية.
وطن مصطفى ليس أرضاً بل انساناً، ليس حجراً بل نخوة وتعايشاً.. و ربما الوطن بالنسبة اليه هو الأرض والحق معاً كما قال محمود درويش.
فهو يرى الوطن في قلوب الناس الذين يسمعون صوت الظلم من نظرات العيون ولغة الأجساد.. و يميزون الحق بعد أن فرقتهم الفتن وعبثت الظروف بعزة و كرامة الوطن.

وطنه كوطني أنا ووطن الكثيرين لا يمكنه أن يغرق في عتمة الجهل والفساد والتخلف ولا يمكن أن يسوده الانقسام و الاغتراب والتعصّب ولا يمكن أن تفوح منه رائحة البواريد و المدافع.
وطنه لا يشبه الدول و المدن الغربية المتطورة و المتحضرة التي زارها أوعاش فيها. الوطن الذي يحلم به مصطفى هو عراق يبكي كلّ يوم على أطلاله و يعيش حالة نكران للواقع المؤلم الذي وصل اليه ذلك العراق.. هذا الوطن المثقل بالجروح والأوجاع والخوف والظلام لم يعد يشبه عراقه المحفور في ثنايا ذاكرته.

مصطفى ليس من أولئك الناس الذين حينما تمرّ ذكرى أو قصة جميلة في أذهانهم توقظ لديهم نوستالجيا الوطن بل هو من أولئك الذين يعيشون فكرة الوطن كل يوم و يسألون أنفسهم كل يوم دون كلل و ملل، أين هو عراق الحضارة السابق للزمن المحتضن للأعراق والأديان و التعايش الصادق فيما بينها، أين عراق الفنون و المسارح و دور السينما.. أين مدارس و جامعات العراق التي كانت تعتمد أفضل نظم التعليم في العالم، أين المطابع و المكتبات، أين التبادل الأكاديمي و اللغات الأجنبية التي كان معظم الشعب يتقن واحدة أو اثنتين منها على الاقل، أين فنّ العمارة أين التخطيط أين الطرقات... أين عراق الستينات و السبعينات..

هذه الذكريات المليئة بجرعات من الفخر و هرمون الادرينالين، تقبع في ذهن هذا الرجل الذي يأبى أن يتعايش مع الواقع الجديد للعراق و يرفض أن يستسلم لما آلت اليه الأمور و يصرّ على حالة النكران.

بينما أنا أعتقد أن بريق الامل لن يعود، ها هو مصطفى الكاظمي يقرر أنه سيعمل حتى الموت على اعادة اللون الساطع لهذا الوطن الذي أعتقد أنه ربما ليس موجوداً الا في مخيلته..