سنة 1996 عندما أنجز الكوميديان السوري القدير دريد لحّام مسلسل «أحلام أبو الهنا» (كتابة حكم البابا وإخراج هشام شربتجي) خرجت بعض الأقلام النقدية لتعنون مقالاتها بحدّ السكين! معتبرة أن المسلسل نهاية فنان أجمع عليه الجمهور. كل ذلك بقسوة جارحة لا تساير تاريخ الرجل الأكثر شهرة في عالم الكوميديا العربية! كتبت إحدى الصحف حينها: «أبو الهنا... سقوط دريد لحّام» خرج «غوّار» عن صمته حينها، وأطلّ في لقاءات تلفزيونية متتالية، لكنّه وقف عند هذا المقال تحديداً في ردوده! كأنه كان يريد تكريس مقولة مفادها أن الحياة مجرّد مسرح تجارب، لا يمكن السقوط فيها إن كنا نمتلك زمام المبادرة ومفاتيح المنافذ المغلقة! بعدها صار للمسلسل نكهة ما عند الجمهور. تعاطى معه بمزاج مختلف عن أعمال دريد ونهاد القديمة!

مناسبة الحديث أنه بعد انتهاء النصف الأوّل من رمضان 2020 انبرت بعض الأقلام لتطويق مسلسلي «الساحر» (كتابة سلام كسيري ومعالجة درامية حازم سليمان وإخراج محمد لطفي وعامر فهد) و«النحات» (كتابة بثينة عوض وإخراج مجدي السميري) والعملين من إنتاج «آي سي ميديا- إياد الخزوز» باعتبار أنهما دون السوية المأمولة! طبعاً لابد من التماهي مع فكرة أن المشاهد لا يعنيه ما حصل في الكواليس، وينتظر النتيجة النهائية، ويتعاطى معها على قدر ما تمنحه من متعة، وتخلق حوله جاذبية، وتمهّد له بالدهشة والتشويق! لكن في زمن «كورونا» لم يعد أحد بمنأى عما أصاب صناعة الدراما الرمضانية على وجه الخصوص بمقتل ووضع العالم كلّه في معتقل! ومع ذلك كان لابد من ابتكار حلول لخلق توليفة مرضية، يكمل عليها فريق العملين. يحكي العاملون في هذين المسلسلين عن طباعة صور لأماكن التصوير التي دارت فيها الكاميرات قبل فرض الحظر في لبنان، حيث كان يجري الشغل، ورسم لوكيشنات مشابهة للاستمرار في التصوير، ضمن الفنادق وأماكن محصورة. تطيح بأية محاولة للاجتهاد والاقتراح البصري، وصنع هوية شكلية تساعد على خلق الدهشة للمشاهد ومن ثم تجرّه نحو متعة التشويق. لكنها البديل اليتيم المتاح! ومع ذلك تمكن المسلسلان تصدر المشهد الرمضاني، والتفوقّ حتى على الأعمال التي أنجزت في ظروف صحية وقبل انتشار الوباء في منطقتنا العربية. وذلك بحسب رأي الجمهور من خلال إحصاء أجرته قوات تلفزيونية لعدد التفاعلات مع العملين، بعدد أكبر بكثير من بقية المسلسلات! فيما كان لابد من اجتراح نهايات افتراضية محددة، لمواكبة الجمهور الذي كان ينتظر جديد النجمين السوريين باسل خيّاط وعابد فهد. هكذا، وتحت سطوة ظرف طارئ قيّد الكوكب، طلب من فريق الكتابة لكلا العملين إنجاز جسر عبور يكون بمثابة نهاية مفتوحة لمتابعة سير الأحداث من خلال جزء ثان لكلا المسلسلين!

لابد أنه من المبالغة القول بأن «الساحر» و«النحات» لم يتأثرا بكل هذا العطب الذي حظر التجوّل في الكرة الأرضية قاطبة! من غير الصحي أصلاً أن يبقى المبدع بكامل حماسه، وعطائه بينما تعاني البشرية كاملة! خرجت الحلقة الأولى من «الساحر» معتمدة على السوية الأدائية بالدرجة الأولى، محاولة كمدماك تأسيسي الالتفاف على غياب مشاهد «ماسترز» لم يتمكّن الفريق من تصويرها، ومع ذلك حصدت كاريزما عابد فهد والتوليفة الخاصة في علاقته بأخيه الأكبر (عبد الهادي الصبّاغ) اهتمام المشاهد. وبين الحلقة الأولى والحلقة 17 فسحة تسلية قوامها موضة العصر الرائجة وهي المبصّرين الذين يعجّ بهم الفضاء العربي! والفرضية التي توحي بها إشارات استفهام كبرى، كانت قد بدأت في نهاية العمل الذي اختار الانطلاق من الذروة، وكشف النهاية المحتومة للشخصية المحورية، «مينا» العارف بخبايا الأمور بذريعة مصادفة قادته لمصائر مشغولة على نول الأقدار المضيئة!

أما في «النحّات» فالتحليق البصري أراد أن يكون خلافاً لبنية مشهدية متواترة! ولو على إيقاع بطيئ. كان الحدث يغزل معطياته بغموض واضح! أراد العمل بمقترحه الحكائي ومواكبته البصرية والحلول الإخراجية أن يكون حالة متفرّدة. لا تشبه التلفزيون من ناحية، وربما لا تراعي شرط العرض الرمضاني وعرض عدد كبير من الأعمال، لكنّها تشد المشاهد خطوة أعلى من المطرح الاستهلاكي، وتحرّضه ليتقفى بنفسه خيوط اللعبة!

العملين لا يمكن أن يكونا «سقوطاً» أصلاً المصطلح لا يحمل قيمة نقدية جوهرية، لأنه رمي حجر وإقرار نهائي، دون ترك مساحة للخطيئة، أو الالتفات للتجريب خارج السياق المعتاد. علماً أن كلّ محاولة اجتهادية لتحريك مياه راكدة، تستحق الالتفاتة، فكيف إذا كانت هذه المحاولة في زمن الوباء العالمي؟! لابد أن يقدّر للعملين نسبة من النجاح وأخرى للتعثّر. لكن البقاء الفني الأعمق لمن يمتلك مفاتيح التجريب ولو دفع الثمن. فجردة حساب سريعة مع أرشيف التلفزيون العربي، سيتكشف المتابع من خلالها ثورات نقدية ضد أعمال حوّلها الزمن إلى كلاسيكيات حقيقية!