هذا الـ"لبنان" الذي عرفناه وعرفه العرب والعجم ما عاد موجودًا. وهذا الـ "لبنان" الرسالة والتعايش والألفاظ المشابهة، والذي يتغنى به الأغبياء وحدهم، ما عاد موجودًا، والكلام اليوم على وأد الفتنة التي "ملعون من يوقظها"، وعلى مبادرات إعادة اللحمة بين اللبنانيين، ما عاد مجديًا... حتى لبنان الواحد الأحد نفسه ما عاد مجديًا، بعد يوم كان مرسومًا له أن يشهد الولادة الثانية لثورة اللبنانيين المطلبية فتحول إلى مشهد جديد من الكراهية الأهلية اللبنانية، وبعد ليلة تراشق فيها السنة والشيعة شتائم لـ "السيد حسن" و"ستنا عائشة"، والشيعة والمسيحيون شعارات "صهيوني صهيوني.. سمير جعجع صهيوني" و"إرهابي إرهابي.. حسن نصرالله إرهابي"، على وقع أصوات الثوار الحقيقيين الخافتة، ووقع صيحات "شيعة.. شيعة" العالية.

إنه الموزاييك اللبناني الذي لا أمل فيه.. ولا أمل منه.

كان 6 حزيران موعدًا لإعادة جذوة ثورة 17 تشرين الأول "المجيدة" ذات الشعار الكبير.. "كلن يعني كلن"، المطالبة بتغيير طبقة سياسة أتقنت الفساد أي إتقان. الكل يعرف أن أكثرية كبيرة من هذه الطبقة الفاسدة يحميها السلاح غير الشرعي، والكل يعرف أن لا سلاح غير شرعي في لبنان غير سلاح حسن نصرالله، لكن الكل آثر اليوم أن يترك هذا السلاح لحاله، وألا يتعرض له، لأن من يمسك به ليس من أهل المشورة والتفاوض، إنما من أهل فرض الرأي بقوة الصاروخ، حتى لو تمسكن في جحر ما، وراء شاشة ما، وقال للآخر "تعال نتكلم".

لكن، ما أن بدأ ثوار لبنان التحضير لموجة ثانية من الثورة أرادوها عاتية، حتى بدأ حسن نصرالله ومعه من معه من أنصبة الحكم اللبناني، مدنية وعسكرية، في تطعيم شعارات الثورة بشعارات حق يراد منها باطل، تمامًا كشعار "نزع سلاح المقاومة". كانت هذه الكلمات مكونات مثلى لوصفة التخريب المتعمد الذي حصل السبت في وسط بيروت، بينما كانت حواجز محمد فهمي الأمنية تعيق وصول حافلات الثوار الملبيين من الوصول من المناطق إلى ساحة الثورة في وسط بيروت.

يخطئ أرباب الثورة إن ظنوا أن هذا لن يحصل كما حصل بالظبط. وأصاب الآلاف من اللبنانيين الذي آثروا الخروج من هذه "السيرة" التي انفتحت على ما تشتهيه دويلة حسن نصرالله في لبنان.
نعود على بدو.. إنه الموزاييك اللبناني الذي لا أمل فيه.. ولا أمل منه.

على تخوم "تماس الحرب الأهلية" بين منطقتي عين الرمانة المسيحية والشياح الشيعية، كانت المسألة السبت لا تحتاج إلى أكثر من شبان على داجات نارية صغيرة تجتاح عين الرمانة شاتمة بشير الجميل ومخونة الناس، ليرد شبان المنطقة وأغلبيتهم من مناصري بشير الجميل وسمير جعجع على الشتائم بأشتم منها، فتندلع حرب أهلية جديدة.
لن أقول إنه أبله، بل هو مفرط في التفاؤل (في أفضل الأحوال) من يقول إن أحدًا في لبنان لا يريد حربًا أهلية جديدة. الكل يريدها في قرارة نفسه، وفي مقدمهم حسن نصرالله الذي يظن أن صاروخ هدد به الإسرائيلي هو نفسه الذي إن هدد به اللبناني انصاع لنزواته الإيرانية.

ربما صار واقعيًا أن نقول إن الطريق المثلى للبنان خارج الحرب الأهلية تمر بنسيان أكذوبات السلم الأهلي وأنموذج التعايش في دولة واحدة. ولمن يخشى الخيارات الراديكالية لن نقول إن الحل هو "حل الدولتين"، إنما دولة واحدة لامركزية بجناحين. فمن يريد أن يعيش في كنف حسن نصرالله وأسياده الإيرانيين فله ذلك في جناح، ومن يريد أن يكون من "الآخرين" الذين إن تجرأوا على القول الحق رماهم حسن نصرالله ومن معه بأوصاف العمالة والنذالة كلها، ولأكن أول العملاء في هذه السيرة... فله ذلك أيضًا، والجناحان تحت مظلة دولة لامركزية تحميها إرادات دولية.

سمّها فدرالية.. سمّها كونفدرالية.. سمّها خنفشارية.. سمّها ما شئت.. لكني أنا الإنسان الذي شفي من الإيمان بأي جدوى من لبنان، والذي صار مقتنعًا بأن لا قدرة له على العيش مع حسن نصرالله وسلاحه وتخوينه "على الرايح والجاي"، والذي لا يرضى بأن يبقى في كل لحظة عرضةً لفحص دم لقياس وطنيته، أريد دولةً لي وحدي، لا يشاركني فيها من يريد أن يكون "جنديًا في جيش" أحد آيات الله، ولا من يسرقني ثم يفضل أن يكون "زبالًا في نيويورك"، ولا من يتربع على عرش البرلمان ثلاثة عقود ونيف ويحاضر في الديمقراطية بينما أزلامه تضرب الناس في الشارع وتحرق المصارف، ولا من خدع الناس ذات "حرب تحرير" ثم يفضح إيلي الفرزلي استجداءه بشار الأسد وزارة لصهره.

أخيرًا، في هذا الموزاييك اللبناني الذي لا أمل فيه.. ولا أمل منه، أليس من مدعاة الاستغراب أن يصيح لبناني إنه ضد السلاح عير الشرعي، وإنه مع حصر السلاح بيد الجيش اللبناني، فيضربه الجيش اللبناني نفسه؟