منذُ أسابيع وأنا في سَورةِ غيابٍ عن نفسي. شعور لا يشبه أوراق الشجر ولا الأزهار. شيء مِن انطفاء للذاكرة، لعلّه شيء إرادي، من قرارة نفسي.الرغبة في عدم مداعبة الأوهام التي ابتكرتها حضارتنا الهشة.

المشكلة في أساسها هي القيدُ غير المنظورِ الذي قيّدنا به الوباء منذ شيوعه. من الصّعبِ التّكهنِ بالمستقبلِ أحياناً، لكنّ الآنّ يبدو مِنَ العسيرِ التكهّن به مطلقا. هل سَنُقيّدُ بارقامنا الافتراضية قريباً برقاءق تعوض عن جلدنا الإنساني الذي جاء معنا إلى الدنيا؟ تُرى ما هو شكلُ حُريّتنا أو عبوديتنا القادمة؟

أنا الشّغوفُ بالشّمس والبحر والسّفر الدّائم، محاصرٌ في حديقتي ومشهد الغابةِ القريبةِ من منزلي. بين حين واخر يمر ظبي ينظر لي ويتساءل عن سر الصمت الذي حل على العالم!

متى الخروج من هذه العزلة،التي حلت مع الوباء وغيرت العادات والطباع التي تعلمناها بجهد كي نعطي لانسانينا معنى؟ بالنسبة لي جوهر حياتي،هو ركوب قطارٍ أو طائرةٍ والذَّهاب إلى مكانٍ ما، بعيد حيث العودة منه على الأقدام، أمراً مستحيلاً.

هكذا أشعرُ بالأمان، حين لا أحد يعرفُ مكاني أو حتى يتخيّله. قضيتُ نصف حياتي في ذهابٍ وإياب، الأفكار التي تسير وجودي هي ما تولدُ بين هذينِ القطبينِ، وإنْ لم تتحقّق فهي تبقى محض أفكار.. فسحةُ أملٍ، كما قال شاعر حين وصف ضيقَ العيشِ.

أعترفُ لكم أنّي لم أقرأ أيّ رسالةٍ اوكتاب منذُ ايام طويلة نسيت تاريخها. اول امس ذكرني بعض الأصدقاء بالعيد، الذي انقطعت صلتي به منذ 45 عاما. فالعيد يحتفل به بين اهله.هنا احتفل بأعياد الميلاد ورأس السنة والفصح، فلكل امرء من دهره ماتعوداً.

في المساء جلستُ في الحديقة حتى وقتٌ متأخرٌ. تابعتُ الغروبَ لحظةً بلحظةٍ،حتى أوّل اللّيل، بلا رغباتٍ في كأسِ نبيذٍ أو حوارٍ مع امرأة، زوجة او غريبة. فالاثنين يبعثان في ذهني الرغبة. كنتُ أسمعُ العصافيرَ تتنازعُ على أمكنةٍ مؤقّتةٍ،لها، لليلةٍ واحدةٍ، على غصنٍ وارفٍ أو في ثُقبٍ صغير بين احجار البيت.

لا أدري، لكنّي لا أدركُ تماما ما هو قادم. فكرة المستقبل التي عززت ايمان البشرية بنفسها تتلاشى. إنّ ارادتنا في التّعلق بحريتنا هي ما تحدّد مصائرنا القادمة. اللّذةُ، التي هي جوهر المعرفة والتّعريف الأقرب للسّعادة، تبقى سجينة أجسادنا؛ والعاطفة، صوت اللّذةِ العميق لا تمضي اليوم أكثر من بضعةِ أمتار. القُبلُ تبقى حبيسةُ الشّفاهِ بينما ما سنتذكّره من الماضي، يخبرنا بأن القبل وهمسات اللذة في كوكبنا- أكثرُ مليارات المرات من البشرِ أنفسهم.

ليست حرب لتكونَ الشّجاعة فيها هي الفيصل، بل هو نزاع عبثي في كُلِّ خطوةٍ وفي كُلِّ حركةٍ وفي كل ما هو قابل للّمس والتّبرك به من ثغرِ المرأة حتى مقبض الباب.

يبدو أنّ كُلَّ ما تعلّمناه من طبيعتنا صار من الماضي. محض ذكرى وحنين، ولكن هل يغيّرُ المرء طبيعته الثّانية.. هكذا بسهولة!

حتى تغيير وطنٍ أقلُّ وطأة من مواجهة فايروس لم نرَه يوماً ولن نراه حتماً، لكنّه غيّرَ كُلَّ عواطفنا.. ذلك هو البؤس الحقيقي للانسان، وهو الوجه الظّاهر من دينونةٍ صامتة.

الورقة الثانية
تمطر منذ ثلاثة ايام دون انقطاع.بين حين وآخر عاصفة صغيرة تزيح اوراق الأشجار عن اغصانها.العزلة صارت مضاعفة حينما اجتمع غضب الطبيعة مع الخوف من الفيروس. الهاتف لاينقطع. اصدقاء من روما ولندن والقاهرة وباريس وهامبورغ. الجميع يبحث عن منفذ للخروج من العزلة.

الحديث ذاته، اسطوانة واحدة كما نقول، موسيقاها الفيروس الذي اصدر حكمه علينا بالاقامة الأجبارية قبل الحكومات.

لأشيء مؤكد لكن كل الأحتمالات و وجهات النظر قابلة للنقاش. اقبل كل شيء واخزنه في دماغي لأصدر حكما عقليا عليه. لست طبيبا ولا عالم بيولوجيا لأدلي بدلوي. اسمع و انتظر واقرأ على شاشة الهاتف ما يصلني.مؤامرة ام صدفة؟ امر عابر ام حتمية تاريخية؟ حكومة واحدة للعالم ام تشظي للحكومات القائمة اليوم؟ و كل يوم نقاشات للهروب من ثقل العزلة. روما مهجورة، باريس فارغة، نييورك نهبا للريح بلا بشر... لكن القاهرة صاخبة كأن الوباء " مولد " تصدح فيه الموسيقى ويتسابق الراقصون وهم يحتفلون برجل خرج من المستشفى بعد ان تشافى من الكورونا. الأعجوبة انه الوحيد الذي يضع كمامة بين مئات الراقصين؟

قطط البيت مستغربة ولاتفهم مالذي حدث لنا انا و زوجتي. لماذا لا نخرج من البيت. ترافقنا ونحن نقلع النباتات الوحشية من الحديقة. تجلس حولنا عند الغداء. دائما مستغربة.

الدجاجات و الديكة على حالها، تسرح بين الأشجار تلتقط حبة هنا و دودة ارض هناك.لا علاقة لها بحداثتنا الكارثية وعبوديتنا في العزلة التي لا نعرف كيف ستنتهي؟

سيتغير العالم بالـتأكيد. لا بل هو قد تغير منذ الأيام الأولى للوباء. اصبحنا جميعا مجذومين نخشى الأقتراب من بعضنا. نخشى من ادوات حواسنا من الفم للانف والعين. اصبحنا نشك في كل شيء. الغذاء مشكوك فيه قبل تطهيره. ايدينا مشكوك فيها بعد ان اوقفت الكثير من مهماتها. لا مصافحة ولا تقليب صحيفة. حقبة تطهير للبشر والأشياء. لكن ماهو الدرس الذي سنتعلمه لننقله للأجيال القادمة؟

الورقة الثالثة
خف رنين الهواتف منذ ام خففت القيود على حركة البشر. المدن فتحت ابوابها، المقاهي والمطاعم واسواق الكماليات.والحدود بين المحافظات لم تعد قائمة شريطة ان يرتدي الناس اقنعة ويحافظون على المسافات بينهم. الغربة الأجتماعية قائمة. الحرية في قفص، حتى متى؟

خرجت الخميس بالسيارة إلى مدينة لاروشيل بعد غياب ثلاثة شهور. ما ان هبطنا، زوجتي وانا من السيارة حتى وضعنا الاقنعة كأننا سنهاجم مصرفا. البحر كان في مد كبير. الأمواج تضرب حجر الساحل بشدة. تتطاير قطرات الماء في الفضاء، تلمع لثانية ثم تعود لتلتحق بالموجة المنسحبة للبحر. تناولنا قهوة على الكورنيش وعدنا. المكان كان موحشا لأول مرة. بين الموائد امتار والزبائن يراقبون بعضهم اكثر مما ينظرون للبحر.العواطف مختنقة ايضا. منذ بدأ العزلة ، ربما، لم تولد قصة حب. الحب يولد في فضاء ما. المكان المحتمل للقاء مهجور: الرصيف، المقهى، مكتب البريد، عربة القطار.... كل هذه الفضاءات كانت مهجورة كمدن اثرية لم تكتشف بعد.

السفر الذي رافقني لسنوات طويلة علمني العزلة في البيت،حينما لا أكون في مكان بعيد، بين اوطان ليست لي امر فيها كغريب. ماحولي، هنا، أعرفه. منذ سنوات طويلة جربت كل الأمكنة حد الملل. لم اجد يوما ما ابحث عنه، الحرية التي تشعل العاطفة. البحر يغذيني بالنظر إليه في أماكن بلا بشر والغابة حينا في الخريف بشكل خاص حينما تخلو من المتنزهين الذين لا يعشقون المطر والبرد والوحدة..أنهما في تغير دائم، البحر والغابة، حركة الكوكب فيهما وليس في الناس الذين يتبضعون ولا ينظرون ابدا لهندسة المدن القريبة من هندسة الأعصاب تحت الجلد.. عيونهم تخترق الزجاج بحثا عن جديد في البضائع المعروضة التي تشبع ابصارهم ولا ينظرون ابدا في العيون، خوفا من التقاء النظرات...
انا في اللا بأس، لست باءسا ولست ذو بأس.

حول البيت، المنعزل في هذا الريف المنكفأ على نفسه، عادت الصقور تحلق بعد انقطاع سنوات. الطبيعة تستعيد اهلها حينما توقفت حركة الناس والسيارات على الأرض وحركة الطائرات في السماء.الصقور في الأعالي، مجموعات في طيران مستدير تبحث عن فرائسها الدابة على الأرض.تصف اجنحتها، كأنها تفكر طوال الوقت، ثم فجأة تنقض، في سقوط حر على فرائسها.افعى ام ارنب طائر حجل تائه في حقل قمح.
في الحديقة، الفراش القادم من بلاد النيل والمغرب يتجول بين الزهور في طيران خفيف. على جناحي كل فراشة رسمت الطبيعة ما يشبه وجه أمرأة. بين حقل القمح والغابة حقل عباد شمس. اتمشى كل مساء هناك. اراقب عباد الشمس الذي ينمو مقدار اصبع كل نهار. قبل ان انهي جولتي امر، شأني كل مساء، على الوزة التي في حديقة أخر بيت في القرية القريبة. تراني من بعيد فتفتح جناحيها وتركض نحوي وانا اناديها بأسمها " بيانكا ". اعطيها بعض اوراق نباتات جمعتها في نزهتي ثم افتح هاتفي المحمول لأسمعها موسيقى بتهوفن" سوناتة على ضوء القمر ". تأخذها السكينة على صوت البيانو المنفرد فتغمض عينيها. اتركها وامضي الى الدار وانا اردد عمت مساءا بيانكا فاسمع صوتها كأنه هديل حمامة تناغي القمر في ليلة صيف . على جناحي كل فراشة رسمت الطبيعة ما يشبه وجه امرأة.
هكذا يمر الوقت بانتظار السفر والمدن التي ستستعيد وجوهها الحقيقية.المدن البعيدة وتلك الخيالية التي لم تر النور بعد..
أنتظر المستقبل الذي مازال موجودا كيوتوبيا.