لم يتقدم الوعي الفكري في سوريا وحتى المنطقة برمتها يوماً إلى الأمام ويرتقى إلى مستوى الحدث، وبقي المستوى الفكري وبمختلف تنوعاته بشأن الوقائع والقضايا العالقة في هذه المنطقة دائماً على حالة تقديسية ودوغمائية مفرطة للفكر وبشكلٍ ثابت، ودون الوصول إلى الإدراك والوعي الحقيقي لفهم ثنايا تلك الوقائع والقضايا، مما أفسح المجال لحالةٍ سمتها الأساسية هو الفكر السطحي حيال زخم الوقائع والأحداث، والكسل الفظيع أمام التغيرات وكيفية التعامل معها، المفهوم الخاطئ في هذا الصدد هو القبول بالقوالب على أنها حقائق مطلقة لا تقبل التغيير. وفي هذه النقطة تحديداً يجب أن لا ننصاب بالدهشة والذهول في مشاهدة تضييع للرؤى الصائبة هي الحالة المهيمنة في سعي القوى إلى إبراز هذه الذهنية كلما باتت الفرصة مناسبة أمام قوة الأحداث ومتطلبات التي تفرضها المرحلة لإبداء قوة الحدس أمام هول الأحداث، وذلك نتيجة المستوى الفكري الرافض لكلما يتضارب مع الذهنية الهشة والممزقة لهذه القوى، وذلك طمعاً وتعطشاً لمفهوم التسيُّد الذي تم توارثه من المراحل التاريخية للعبودية، دون الرغبة في الدخول إلى عمق التاريخ وسبر أغواره لقراءة صعود وهبوط القوى المُتسلطة على رقاب الشعوب.

وفي مستطاع أياً كان بمجرد إلقاء نظرة على مجريات الأحداث والصراعات المستمرة في المنطقة رؤية هذه الحقيقة الساطعة في سلوكيات هكذا قوى تحمل في دماغها هكذا نوعية من الموروث الفكري في منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي هذه القوى غير قادرة على تنفيذ أية سياسة ما لم تترسخ في أبعادها تحطيماً لذاتها وللمنطقة وثقافتها خلال الزمن، فالمسارات السياسية الداعمة للتقدم الفكري وتطبيقها عملياً غير موجودة كلياً في ساحات العملية التابعة لتلك القوى، وذلك ليس نابع من عدم القدرة على استيعاب وفهم تلك المسارات، بل من ديناميكية سلطتها التسلطية الموروثة التي تفيد دائماً وأبداً بمعاكسة أية سياساتٍ ذو أبعاداً متطورة تنافي طابعها الموروثة هذه.

ما يؤكده الوقائع التي حصلت في التاريخ أن ظاهرة السلطة المركزية وأطرافها تكمن في بنية الأزمات الاجتماعية في الشرق الأوسط وبمختلف توجهاتها السياسية من الإمبراطوريات والدول التي مرت على هذه المنطقة، وما كانت هذه الظاهرة إلا انعكاساً لهذه الحقيقية الفكرية المتسمة بالضحالة، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى الانصهار والانحلال في مجرى السيلان الفكري وتبعاتها التنفيذية القادمة من الخارج، لذلك فقد أدت دائماً إلى فقدان أصحابها لهيمنتهم، ويعود الفضل في الانهيار والسقوط إلى تلك السياسات التي طبقوها، تماماً مثل الشخص الذي يصر على حفر قبره بيده ويرمي نفسه فيه. وما بين حيوية الأبعاد التي تمييزها التكدسات التاريخية من ناحية والمجهودات المتسلطة التي أنتجتها الأفكار السطحية المتناقضة مع طبيعة الثقافية الرصينة منذ ألاف السنين من ناحيةٍ أخرى، انتهت خاتِمة تلك الإمبراطوريات مثلها مثل كل نظيراتها، بنجاح الفكر المنفتح والمنطقي فيها على السطحية الدوغمائية عبر زوال حقب تلك الإمبراطوريات والدول.

وبدون أدنى شك، أصبحت فقدان الإرادة والبقاء دون موقف علمي يستند إلى القراءة الصحيحة حقيقة تاريخية ويستمر إلى يومنا هذا، والحال هذا في منطقتنا، تضييع لقوة اللحظة والذوبان في بوتقة الأفكار الآتية من الخارج، وذلك بالرغم من تكرارِ الإختبارات المريرة، فما هي المشكلة التي تؤدي بنا إلى إضاعة التاريخ والحاضر والمستقبل؟ إن المشكلة الحقيقية تكمن في الاستدلال الخاطئ المؤدي إلى خسارة المعرفة الحقيقة والحقائق الغالبة، وفي هكذا حالات التي تضيع فيها قوة الحقيقة لا مفر حينها من ظهور التشويه والإفساد للأمور، وبذلك فقط تظهر السياسات المتسلطة الموروثة على الأرض الواقع.

امتدت هذه المشكلة التاريخية إلى يومنا من خلال السياسات الأنظمة القومية، فالسلوكيات هذه الأنظمة التي تسعى إلى فرض رؤيتها على الشعوب الثائرة، تجاه حالة الفوضى التي تسود المنطقة برمتها من صراعات بين الدول والمصالح المتضاربة، ومن منطلق كونها ليست لديها القدرة على استيعاب التغيير وديناميكيات الحداثة التي تجري في المنطقة بفعل العوامل الداخلية والخارجية. ولعل النظام السوري وهويته السياسية هو الحالة الأكثر تعبيراً عن تراكمات المعضلة. فذهنية هذا النظام التي تعمل بموجبها اليوم ما هي إلا من نواتج مخلفات الماضي والتي تهدف إلى إزالة دور الشعوب المناهضة والثائرة والمؤثرين في محركات التاريخ، حيث أفضت ذهنية هذه الهوية السياسية إلى تمزيق الأوصال وشرذمت الشعوب والثقافات التاريخية السورية، فالاستحواذ على مقدرات الشعب وتهميش المطالب الحقة من خلال الذهنية الإقصائية دون أخذ أي اعتبار لهذه المطالب تجعل من الكارثة السورية تستمر بوتيرة تتصاعد فيها حدة المأساة على جميع المستويات سواء السوريين في الداخل أو الخارج، وبنظرة معمقة لما تجري في سوريا نرى هذه المعضلة التاريخية بكل وضوح ذو أبعاد مما لاشك فيه ستترك أثار سلبية على جميع السوريين، من تغيير الديمغرافي وتدمير المدن ومحو الاثار الثقافية والتاريخية الاجتماعية للشعب السوري.

إن المعادلات الصفرية التي تكمن في صلب السياسة التي ينتهجها النظام اتجاه التوازنات الجديدة التي ترتسم معالمها في المنطقة والمتمثلة في صعود دور الشعوب على مسرح التاريخ بالرغم من تعرضها لكل أنواع المأساة والبؤس والتشرد، ليست موجه ضد قوةٍ مضادة لها، إنما ضد كل الثقافات السورية الغنية أيضاً، فالمناطق التي ترزح تحت السطوة مليشيات هذا النظام تعاني من الحالة الملتبسة التي فرضت عليها نتيجة تغيير معالم تلك المناطق في كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وتبرهن على هيمنة الثقافة الإقصائية اتجاه الآخرين والموروثة من وراثهما، دون معرفة في عاقبة الخُلاصات التي قد تترتب على تلك المعادلات الصفرية، فالنظام تسعى بجميع قدرته إلى فرض نظرته التسيُدية بقوالب تفرضها الطبيعة القاسية للذهنية الموروثة على المسارات السياسية ومعاداة المتناقضة معهما طيلة عمر الكارثة السورية، والتي قد تكون بوابة الانفتاح لحلحلة الأزمة في سوريا، وبذلك يتم القضاء على أية محاولة تكون لصالح سوريا وشعوبها، نتيجة العداء لعامل تطور دور الشعب، وخاصة ثبُوت الظروف الدولية الجديدة قد جعل من هذا النظام فاقداً للبصر في تفاعلاته مع الأحداث والقضايا المعاشة وأكثر تزمتاً وقسوةً.

وضمن هذا السياق لم ينتج هذه الهوية السياسية طوال هذه السنوات، إلا أشكالاً متنوعة من القوات التي كانت على شكل فرق تتميز بهيكليات إقطاعية مقسمة ومتشرذمة شبيهة بالعهد الإمبراطوريات الديكتاتورية، وتستميت هذه القوات التي تعمل تحت سطوة هذا النظام في سبيل القبضة الصلبة على البنية المجتمعية وذاتيتها والإزاحة بتماثلها الأهلية بإنتاج صيغة ميليشياتية مسلطة على السوريين ترتبط بالذهنية الإقصائية لديه.

أمام قوة هذا التغيير الذي أحدثته المأساة السورية في المنطقة وأثرت على العلاقات الدولية التي كانت سائدة في العقد الأول من هذا القرن، تظهر انبعاثات عالمية جديدة مختلفة كلياً عن ما أرسيت في القرن العشرين، من تحديث في كل مرتكزات ومقومات العالم الحياتية، وبمعنى آخر عولمة الحياة وما فيها، وعلى هذا الأساس تلتحم معوقات التنفيذية واجتياح العولمة العالمية الجديدة والمتمثلة في تقليص صلاحيات هيمنة الأنظمة القومية القمعية وتحييد للذهنية التي تسود هذه الدول من الثقافة الاستحواذية وإقصائية والاقتصاد المسلوب من أيدي الشعب، وتبديلها بالفكر الاقتصادي الشمولي العالمي، الشركات الكبرى العابرة للحدود القومية، والتي تدعم في نفس الوقت الاطروحات المعاكسة تماماً للأنظمة المتسلطة كالنظام السوري في كل المجالات وهي الشكل الليبرالي كأرقى مراحل التطور التاريخي على حد وصف روادها، وبغض النظر عن مقدار الحرية والعدالة والديمقراطية المتوفرة في هذا النظام البديل، ولكن لا بد من تنويه على أن أياً كان البدائل المراد تطبيقه في سوريا كحلول ناجعة وموفقة للخروج من الحالة المعاشة،

الأخذ بعين الاعتبار الأسباب التي أدت إلى هذا الجحيم الذي لا يطاق، وعدم تهميش الخصوصيات الثقافية والاجتماعية العريقة للشعب السوري.
هذا هو الحال، وبالتالي أين تكمن الحل، إن تهميش هذا النظام وإزاحة بالحقيقة التاريخية الراسخة من التعايش المشترك والحفاظ على التوازنات الأهلية من تماثل خصوصياتها الثقافية والاجتماعية في نفس الوقت، وتشديد على فرض مقاربات ضيقة نابعة من هويته القومية لن تفضي سوى إلى الإزاحة بهذه الحقيقة التاريخية، وتكرار الانسداد العقيم وتجذير المأزق في القضايا المعاشة، فدور المفتاح للحل يكمن من حيث الاتجاه أن تتبنى القوى الدولية المعنية بالحل السياسي في سوريا عملية التحول الديمقراطي المحقة للشعب السوري من خلال الاعتراف والتقدير، وربما كان هيغل على حق عندما قيم الكينونة الإنسانية في كتابه أصول فلسفة الحق بأن عراك الإنسان في الحياة من أجل تقدير الأخرين له والاعتراف به، وبالتالي فإن مصير التاريخي للشعب السوري بناءً على الحقيقة المذكورة مرهون باعتراف القوى بالمطالب السياسية للسوريين في الحرية والديمقراطية، كهوية مجتمعية لها الحق في تأسيس وجودها على الأصعدة الإدارية والسياسية والاقتصادية استناداً على الحقائق التاريخية والعلمية.