هناك من كان يعتقد ان خلاصنا سيكون عبر نخبتنا السياسية والاقتصادية والثقافية وهو اعتقاد ساذج وبسيط ينظر الى الأشياء في كليتها ويقوم بتغييب، عن وعي او دونه، تفاصيل نشأة وأصل هذه النخبة، والشيطان كما نعرف يكمُن في التَفاصيل.

ان النخبة بكل اشكالها مُعطى مَبني على أساس التراكمات الناتج بدوره عن صراعات طبقية، فكرية، معرفية، الخ. فالحريات هي نتاج اللبرالية البورجوازية القائمة على صراع طويل ومرير مع الإقطاعية وحكم الكنيسة. لم يكن من السهل ان تفرط الكنيسة في سَطوتِها وسُلطتها الدينية والأخلاقية والمادية لذا اخذ التغيير الاجتماعي والاقتصادي والفكري مجالا واسعا من الزمن لأن كل تغيير هو سيرورة طويلة ومعقدة من النجاحات و الإفخفاقات، لذا لا احد يمكنه ان يُصدق ان هذه النخبة التي تحكمنا سوف تبادر لوحدها و من تلقاء نفسها بإعطائنا حقوقنا الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية.

بعد قرابة العشر سنوات من الثورة زائد جائحة كورونا، يزداد الفقر وينتشر الفساد ويُخيم الشك اذ تشير آخر الدراسات لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الى ان نسبة البطالة سوف تقفز من 15 الى 21 بالمائة أي بزيادة اكثر من 270 الف عاطل عن العمل الى جانب ارتفاع نسبة الفقر من 15 الى اكثر من 19 بالمائة أي ما يعادل 475 الف مُفقّر إضافي. و طبعا وفي كل الحالات تبقى تونس بعد الثورة أحسن و أفضل بفضل مكسب حرية التعبير و التنظُمِ وبفضل الانطلاق في ارساء مؤسساتها الديموقراطية الناشئة.

ان مجابهة التحديات، التي تتحدثُ عنها حكومة الياس الفخفاخ، و انعاش الاقتصاد و تغيير الذهنيات، يتطلب أولا تغيير "اللوجيسيال" وهي الكلمة التي استعملها رئيس الحكومة في تونس ضمن برنامجه الإنتخابي و يقصد تغيير طريقة التفكير و العمل. وهذا نظريا امر جيد، لكن التغيير يجب ان يبدأ من أعضاء الحكومة أنفسهم، أي جزء من النخبة الحاكمة، حتى لا نقول ويقول المواطن العادي، كيف يستقيم الظل والعود اعوج؟

قد يسامح المجتمع الفرد العادي على اخطاءه ان كانت عن حسن نية، غير ان ردة فعله تكون اعنف واقسى كلما كانت مرتبطة بمن هو مطالب بالسهر على عدم وقوع هذه الأخطاء لأن المواطن-الفرد يتمثل المسؤول السياسي بكونه مثالا في الاستقامة و النزاهة و من هنا تأتي خيبة امله و فقدانه للثقة في الطبقة السياسية برمتها في حال اكتشف خلاف ذلك. في المجتمعات الديموقراطية يكون العقاب عن طريق الانتخابات خلافا لمجتمعاتنا التي تعيد انتخاب الفاسد و السارق و الكاذب وهي مسألة طرحت بقوة على طاولة بحوث علم اجتماع السياسي في فرعه علم اجتماع الانتخابات و هي ظاهرة اجتماعية لم يسلم منها أي مجتمع.
من هنا يعتبر عالم الاجتماع الفرنسي بيار لاكوم ان ارتكاب أصحاب "الياقات البيضاء" ويقصد الساسة و رجال الأعمال لأفعال إجرامية و انحرافهم عن النظم الاجتماعية و القوانين يقابله ردة فعل اجتماعية تختلف باختلاف درجة و مكانة و وجاهة هذا السياسي و شبكة علاقاته صلب الإدارة و الشرطة و القضاء والنقابات، كما يكشف في كتابه "علم اجتماع انحراف النخبة" كيف يَلقى هؤلاء الأعذار للتخفيف من حدة الأحكام و الوصم الاجتماعي حتى انهم في بعض القضايا يتحولون الى "ضحايا و ابطالا" بحسب عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي دي سردون الذي اشتغل كثيرا على افريقيا.

يجب على رئيس الحكومة التونسي الياس الفخفاخ الإعتراف بأنه اساء التقدير بإخفاء امتلاكه لأسهم بشركة خاصة تتعامل مع الدولة مما يشكل تضارب مصالح واضح كشفه الإعلام وهيئة مكافحة الفساد، حتى وان قام ببيعهم بعد ذلك تحت ضغط الرأي العام لأنه تعهد ان تكون حكومته حكومة الشفافية والوضوح وهذا لا يمكن اعتباره ضعفا بل أحد دعائم قوة الأنظمة الديموقراطية.

لو نظرنا الى الجزء الملآن من الكأس سنقول اننا نسير في الطريق الصحيح لأن ميكانيزمات الأنظمة الديموقراطية من مجتمع مدني وهيئات واعلام بصدد الاشتغال و القيام بدورها كسلط مضادة، في المراقبة و الكشف و الإقتراح، فيما يمكن اعتبار هذه الأخطاء من مسؤولي الدولة، هذا اذا سلمنا انها تمت عن حسن نية، هي نتاج طبيعي لمخاض الانتقال الديموقراطي.

ان الجزء الفارغ من الكأس، يكشف لنا دون مواربة فشل النخبة التونسية في المرور من مرحلة الانتقال الديموقراطي الى ديموقراطية راسخة لأن نخبتنا في الحقيقة غير "مُتطّبعة" بقيم الديموقراطية والحداثة ف"المجتمعات التي تعرف نخبة داعية للديموقراطية تتخبط في قضية منهجية أساسا فهمي من ناحية تتوجه الى السلطة مطالبة إياها بممارسة الديموقراطية و هذا يعني ان السلطة غير متطبعة أصلا بصبغة الديموقرطية و هي بالتالي غير قادرة على ممارستها" كما يرى أستاذ علم الاجتماع المولدي اليوسفي.

عون الأمن و السياسي و القاضي و الإعلامي و النقابي...الذي نشأ في مجتمع تشبُع بقيم دولة القانون التي تحمي الحريات و المعتقدات و الضمير، تصبح هذه القيم بحكم المراكمة التاريخية "صابغة لشخصيتهم" وهذا يتطلب شيئين، الإرداة السياسية و الوقت الكافي لأنه كما يرى محمد العابد الجابري في كتابه العقل السياسي العربي"ان طبائع العمران وليدة عمر طويل فهي تجد أصلها...في اللاشعور الجماعي".

الباحث جلال التليلي و في كتابه" في الصحافة و الأيديولوجيا التنموية تحت النظام التسلطي" يتحدث عن استراتيجية الولاء و المحافظة و يكتب" و بفعل هذا التطبّع الصحفي الذي ساد طويلا و توارثته أجيال الفاعلين الصحفيين المهيمنين داخل حقلهم لم يتمكن هذا الخطاب التقييمي الإصلاحي من الصمود طويلا و سرعان ما تراجع تدعيم التوجهات الحكومية الجديدة دون تحفظ جزئي او تفصيلي و دون مقارنة بتوجهات الحكومة السابقة فاتحا المجال امام العودة السريعة لإشتغال استراتيجية الولاء و التكيف".

في الحقيقة ان "استعدادية" جزء كبير من النخبة التونسية لتقديم فروض الولاء والطاعة للسلطة القائمة مهما كانت توجهاتها وانعكاسات ذلك الكارثية على المسارين الاقتصادي و كان مبحث الكثير من المفكرين في تونس و خارجها و خلُص اغلبها بأن نخبتنا هي جزء من المشكل و ليس الحل.

الباحثة الفرنسية بياتريس هيبو، سلطت الضوء على خصائص النظام السياسي والاقتصادي بتونس في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي وذلك عن طريق الممارسات المنتهكة للقانون مثل الفساد و المحسوبية وكشفت الترابط المتبادل بين الفاعلين السياسيين والإقتصادين عبر شبكات و تبادلات متعددة خارقة للقانون وبالنسبة "لهيبو"، فإن الفساد في تلك الفترة هو" أيضا شكل من أشكال الخدمات المقدمة بصفة طوعية."

وفي كل الأحوال يعرف لياس الفخفاخ و حكومته انه يسير على رمال متحركة، فحركة النهضة الإسلامية لم و لن تقبل ببقاء قلب تونس حليفها في البرلمان خارج الحكومة خاصة بعد ان فقدت التحكم في خيوط تشكيل الحكومة ومرور المبادرة الى رئيس الجمهورية قيس سعيد "صديقها اللدود"، لذا فإن مراكمة الأخطاء و سوء التقدير وسط برلمان في نصفه تقريبا لا ينظر بعين الرضى الى هذه الحكومة سوف يُعجّل برحيلها ان لم يكن على ايدي معارضيها فهو سيكون بأدي الحكومة نفسها التي راكم عدد من أعضاءها أخطاء "سوء التقدير" لأن السلطة لا تتأسس على حسن النوايا و إنما على الأفعال و الإنجازات و النتائج.