عقب انتهائي من كتابة هذه المادة القصيرة، قلتُ في سري: لن تخسر شيئًا يا رجل إذا قمتَ بعملية بحث بسيطة بخصوص العنوان حتى لا يكون مطروقاً، إلاّ أني بعد التحري تفاجأت برواية عنوانها "العاهرة والإمام" لكاتبٍ يدعى المفضل أزعبال، فنسيت أمر المقالة حيناً والتهيتُ بقراءة ما توفر من صفحاتها على الخادم الأممي، وحقيقةً لا أعرف ما الذي جرى للعاهرة التي راحت تلازم إمام المسجد في بيته، بسبب الصفحات المبتورة من الرواية المليئة بقصص وأحاديث الوعظ والإرشارد الديني، وبعد أن عجزت عن تأمين الرواية الكاملة لأعرف ما الذي حل بهما قلتُ: فلأعد إلى موضوعي، أي المتسائل والإمام.

فيا سادة يا كرام بعد أن غدت ظاهرة السلب والنهب والسطو مقيتة جداً وتستدعي استنفار كل مشاعر البغض والاشمئزاز لدى أبناء منطقة عفرين، الذين عليهم تجرع المرارة على مضض وعدم إظهار أية مشاعر مناهضة لثقافة الغزو التي انتشرت مع انتشار الكائنات المدرعة التي سلطتها تركيا على المنطقة منذ سنتين، تلك الثقافة التي أجاد استخدامها إلى جانب تلك الكائنات، الكثير من المدنيين التابعين لهم أو المدعومين من قبل مدبري أمرهم، ولأن الكيل طفح ببعض المواطنين على ما يجري أمام نواظرهم، راح فأر التساؤلات يصطدم بقحف أحدهم، فلم يقدر على ضبط حركة وفضول الذي يركض في رأسه، فبعد الانتهاء من أداء الصلاة اقترب من إمام جامع البلدة وسأله قائلاً: يا شيخ لماذا في حديثك تركِّز على مواضيع لا علاقة لها بالواقع الذي نعيش فيه لا من قريب ولا من بعيد؟ فتحكي عن الظروف التي عاشها أصحاب النبي قبل أكثر من 1400 سنة، بينما الظروف الذي نعيشها ونعاني منها فلا تقاربها، مستأنفاً الحديث عذراً شيخنا واسمح لي أن أقول لك بأن وضعك غدا كوضع الشاعر الجبان الذي لا يجرؤ على التصريح بأي شيء يفكر فيه ويشغل باله، لذا يلجأ إلى قناع الإبهام حتى لا يعرف أحد معاني الكلمات التي يدلقها هنا وهناك، وقصيدته من فرط التغليف والتحصين غدت كالقوقعة التي لا يعرف المرء ماذا تريد وماذا يجري معها داخل قلعتها المحصنة.

فقال الشيخ صراحةً لا أعرف دوافع ذلك الشاعر الذي تقصده، ولا المشاعر التي تنتابه، ولا الظروف الذي تدفعه للعجمة، وقبل أن أجيب عن تساؤلاتك وما ترمي إليه بإيماءاتك المتكررة كلما سنحت لك فرصة طرح الأسئلة المحدبة، وصدقاً إشاراتك غدت محط اهتمام لدي ليس لأني متشوق للجواب عنها، إنما الواقع الراهن يدفعني للتفكير بها لأجد أزقة أو معابر خاصة أتملص من خلالها حينما تمطرني بالأسئلة أمام العامة، كما اني قبل أن أُفَرّح قلبك بما تتوق لسماعه سأحكي لك قصة إمامٍ آخر حاله كان قريباً من حالي، وعاش مثلي في مرحلة زمنية ما، وطُرح عليه ما كان يتحاشاه مثلي بسبب الظروف الموضوعية للإمام في ذلك الزمان، فقال السائل: تفضل شيخنا احكي كلي آذانٌ صاغية.

فباشر الإمام قائلاً: يُحكى أن إماماً من الأئمة مقامه كان قريباً من مقامي، ويقوم بنفس العمل الذي أقوم به، وحيث كان الآخر مثلي إمام جامعٍ في حي بحسيتا بمدينة حلب السورية، وللعلم فحارة بحسيتا واقعةٌ بين جادة باب الفرج والبندرة، ويذكر أن في الحي عدة مساجد مندثرة وجوامع ما تزال موجودة منها إلى جانب جامع بحسيتا، هناك الجامع العمري، وجامع القرمانية، وكان معروفاً لدى كل سكان المدينة أن الحي مشهور ببيت البغاء الموجود فيه، وحيث أن أوّل موقع رسمي للدعارة كان في تلك الحارة، وتم إنشاؤه عام 1901 م، حيث قرر والي حلب العثماني رائف باشا افتتاح دار دعارة مرخصة في حلب، كما ذكر الطباخ في كتابه "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء"؛ فسأل وقتها أحد رجالات ذلك الزمان إمامَ جامع بحسيتا؛ لماذا يا شيخنا لا تدع موضوعاً إلا وتتطرق إليه بينما لم أرى ولا سمعت بأذني أو سمعت من سواي بأنك تحدثت يوماً عن ظاهرة الزنا والزناة على المنبر؟ فرد الشيخ على المتسائل قائلاً: إن رزقي عليهن يا ابني فكيف تريدني أن أتحدث من على المنابر عنهن وعن طبيعة عملهن؟

وعلى الفور قال المتسائل فهل يُفهم من كلامك بأن رزقك لا سمح الله على الحرامية مثلما كان زرق ذلك الإمام على العاهرات يا شيخ؟ فقال الشيخ لا طبعاً يا ولدي ومعاذ الله أن يكون رزقي على من يبني مجده بالنهب والسطو، وأردف قائلاً بتصوري حتى رزق ذلك الإمام لم يكن على المومسات بشكل مباشر، إنما كان مقصد الإمام حسب ما فهمت أن رزقه على ذوي النفوذ من أصحاب المحال التجارية المنتشرة في الحي وكذلك على زبائن الحي من معشر الذكور، لذا فإن تحدث بالسوء عن بائعات الهوى فقد يخسر حتى وظيفته كإمام للمسجد؛ وأضاف الإمام وقد لا أكون مبالغاً إن قلت لك بأن واقعي أسوأ بكثير من واقع ذلك الإمام، وليتني كنت إمام العواهر ولم أكن إماماً في هذه المرحلة النتنة من عمر المنطقة، وراح الإمام هذه المرة يُمطر صاحب السؤال بالأسئلة، قائلاً له: هل سمعت طوال حياتك بأن كتيبة من العاهرت داهمت أحد المنازل بالقوة؟ قال لا، وهل سمعت بأن رهطاً من الفاسقات اعتدوا على رجلٍ بريء في الشارع بالضرب؟ قال لا، هل سمعت بأن مجموعة من بائعات الهوى شكلن عصابة وقمن بعمليات السلب بقوة السلاح؟ قال لا، وهل سمعت عن كروبٍ من الفاجرات قام بنهب وسرقة أغراض منزل ما من منازل المواطنين في وضح النهار بفضل ما تحملنه من سلاح وما منحن من سلطة؟ قال لا، إذن ولا أنا سمعت أية قصة أو أية محاولة تهديد للشيخ من قبل عاهرات زمانه، ولا مومسة من المومسات فرضت على الشيخ أي شيء بالغصب والاكراه، ولا كانت أية عاهرة مصدر إرهاب وخوف بالنسبة للشيخ، إنما بكل بساطة كان يعلم الشيخ بأن بعض مرتادي الحي من أصحاب النفوذ والمال من طلاب الجنس الذي توفره النسوة العاملات في بيع الهوى بمركز الدعارة؛ لذا تحاشى الدخول في ذلك الامتحان وحاول جاهداً بألا يحرجهن ويحرج طلاب المتع الآنية منهن، طالما ما من واحدة منهن أذت الشيخ أو جلبت له أيَّ ضررٍ مباشر أو غير مباشر.

أما بالنسبة لي يا بني فأي كلامٍ على الملأ عن ملحقات ثقافة الغزوة التي جاءت بها القوى المدرعة التي تتحكم بمصير الأهالي في منطقة عفرين، فقد يكون سبباً مباشراً لاعتقالي وإهانتي، أو الضغط عليّ لتهجيري من المنطقة أو حتى لتصفيتي بقنصٍ طائش أو بعبوةٍ ناسفة تُلصق بدراجتي النارية!!

وبعد كل هذه المخاطر المحدقة بي فهل ترى بأنها شجاعة حينما أتكلم عن موضوعٍ شبه مشرعن من قبل أية قوة تغزو ديار من حسبتهم من الكفرة؟ وأردف الشيخ قائلاً: يا بني صحيح أن ثمة أناس خلوقين من بين العسكر ولكن لا صلاحيات لهم، والسلطة الفعلية والحقيقية ههنا هي بيد السيئين، لذا الكثير من هؤلاء الرعاع المتسلطون على رقابنا لم يتركوا فاحشة ولم يرتكبوها بحق جيراننا ومعارفنا وأقربائنا، ومع ذلك لم نجرؤ حتى على التعبير عن امتعاضنا؛ لأن الحق في ربوعنا الآن هو الباطل والباطل هو الحق! فكيف تريدني إذاً أن لا أتحاشى الكلام عما يفعلون، وأن لا أفضّل عشرات المرات الظروف التي كانت تحيط بإمام العواهر ذاك على الظروف التي نعيشها في المنطقة منذ ما يزيد عن سنتين؟.​