قبل فترة قصيرة أشار أحد المحللين الإسرائيليين إلى أن اكثر من ٨٠ في المائة من العرب يكرهون إسرائيل.
ولعل هذا التصريح يستحضر حقيقة قيام علاقات دبلوماسية مع دولتي المواجهة مصر والأردن التي مضى عليها مع الاولى أكثر من ٤٠ سنة ومع الثانية حوالي ربع قرن، لكنها لم تؤد الى نشوء علاقة ودية بين شعبي مصر والاردن مع حكومة وشعب إسرائيل، فالمصريون والاردنيون يرفضون بأغلبية شبه مطلقة زيارة اسرائيل وإقامة علاقات ثقافية او تجارية او سياسية مع الإسرائيليين، وربما العكس يحدث حين يتعلق الأمر بالاسرائيليين تجاه هذين البلدين.
حين ننظر في تاريخ الدول التي خاضت حروبا عديدة ضد بعضها البعض مثل فرنسا والمانيا نكتشف أن بناء علاقات صداقة ابتداء من اوائل خمسينيات القرن الماضي لم يأت نتيجة انتصار إحداهما على الأخرى، وفرض الصداقة عليها قسرا كما هو الحال مع اسرائيل مصر والاردن، وبالطبع مع دعم أمريكي هائل لاسرائيل وضغط اقتصادي شديد على الدولتين العربيتين.
واذا كانت العلاقات الثقافية والاقتصادية وغيرها ازدهرت بين فرنسا والمانيا منذ ذلك الوقت فهي في الوقت نفسه تكاملت وأصبحت أساسا لقيام كيان أوروبي موحد هو الاتحاد الاوروبي اليوم . وهذا الاتحاد جاء في الأساس اثر استفتاءات للشعوب الاوروبية نظمتها حكوماتها وجاءت على مبدأ حرية الاختيار دون قسر أو فرض من طرف آخر.
على عكس ذلك، لم تؤد سياسة فرض عقوبات على ألمانيا وقسر شعبها على إقامة علاقات دونية مع الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولى إلا إلى تنامي مشاعر الضيم والضغينة في نفوس الشعب الالماني ولم تستطع الحكومة الألمانية، على الرغم من قبولها قسرا بتطبيع علاقاتها بالدول المنتصرة مع قبول شروطها المذلة، عرقلة ظهور الحزب النازي الذي استثمر هذه المشاعر الغاضبة التي ظلت تغلي في النفوس ليقود زعيمه هتلر في الأخير العالم، بعد 21 سنة، الى حرب أخرى أكثر ضراوة من سابقتها.
واليوم، نحن نشهد تطبيع ثلاث دول عربية أخرى مع إسرائيل على الرغم من أنها لا تحدها حدود معها، وبالطبع برعاية وضغط طرف منحاز بقوة الى جانب الأخيرة، متمثلا بالولايات المتحدة ورئيسها الحالي دونالد ترمب، تحت ستار يجمع التهديد والاغراء. فالسودان الذي عانى طويلا من العقوبات الاقتصادية الامريكية والحروب الأهلية وُضع في الزاوية من قبل الادارة الامريكية: إما وإما: لن يُحذف اسم دولة السودان من قائمة البلدان الراعية للارهاب الا اذا اقامت علاقات دبلوماسية مع اسرائيل.
بالطبع لم يذكر المحلل الاسرائيلي سبب أو أسباب مشاعر الضغينة التي يحملها أغلب العرب تجاه اسرائيل وشعبها، فكأن مصادرة القدس الشرقية ، وتجاهل مبادرة السلام التي أقرها مؤتمر قمة الجامعة العربية عام 2000 بالاجماع، لا دور لهما في ذلك. ولو أن الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة وافقت على تلك المبادرة العربية القائمة على مبدأ الدولتين، لكُنّا شهدنا اليوم منطقة شرق أوسط آخر قائم على حب واحترام متبادل بين شعوب وحكومات بلدانه بدلا من مشاعر الضغينة من جانب لدى الطرف الأضعف ومشاعر التفوق لدى الطرف الأقوى المدعوم أميركيا.
بدلا من ذلك مضت إسرائيل في تحقيق ما تحلم به التيارات اليمينية المتطرفة فيها، بمصادرة هضبة الجولان السورية التي احتلتها خلال حرب حزيران، والمضي قدما بمصادرة أراضي الضفة الغربية وبناء مستوطنات لاسكان اليهود القادمين من بلدان اخر .
واليوم نجد حالة الانتشاء التي تصيب المنتصر سواء في الحروب أو في الالعاب الرياضية تستحوذ على أغلبية الإسرائيليين وهم يرون بلداناً عربية عديدة تُلوى أذرعها فتطبّع مع بلدهم. بالمقابل لا يجد نتنياهو وغلاة اليمين الاسرائيلي أي حرج في تأكيد استمرار سياستهم في مصادرة أراضٍ أخرى من الضفة الغربية حتى بلوغ نقطة اللاعودة حيث يصبح إنشاء دولة فلسطينية متكاملة وقابلة للحياة على أرضها مستحيلا.
الآن، أصبح الفرد العربي يواجه حقيقة واحدة: دولة تسعى الى إقامة علاقات طبيعية مع بلده وفي الوقت نفسه تمضي قدما في سياسة تدمير شروط بروز دولة فلسطينية صغيرة لا تشكل سوى ٢٠ في المائة من أرض فلسطين قبل ١٩٤٨، وتمضي قدما في تحويل إسرائيل دولة عبرية بحت، بما يحمله هذا التوجه من احتمال طرد المواطنين الفسطينيين فيها. ناهيك عن اصرارها على مصادرة اراضي الجولان التي هي أرض محتلة. وفق تعريف كل القوانين الدولية وإقرار معظم بلدان العالم بذلك.
هل سيعني الكثير أن تنجح اسرائيل حتى في اقامة علاقات دبلوماسية وتجارية مع كل البلدان العربية دون أن تعمل على إزالة مشاعر الغيظ العميقة لدى شعوبها بسبب غطرسة زعمائها؟
وهل ما تمارسه اليوم من سياسات تذكّر بسياسات الاستعمار الاستيطاني الذي اتبعته فرنسا في الجزائر خلال القرن التاسع عشر لن يعود بالضرر عليها على يد أحفاد الذين فقدوا بيوتهم وأراضيهم وآباءهم أو إخوتهم بفعل بلدوزرات إسرائيل وأسلحتها الفتاكة، وبفضل دعم غلاة الانجيليكيين الاميركيين لهم؟
كم تبدو عملية التطبيع الجارية حاليا تحت فوهة الرئيس الأميركي دونالد ترمب وصهره كوشنر شبيهة بتغطية الجمر المتقد بطبقات من الرماد.
لكن ما نراه هو الرماد فقط وما لا نراه هو الجمر.
______________________________________
*روائي عراقي مقيم في لندن
- آخر تحديث :
التعليقات